تمر على الانسانية بشكل عام والشعب العراقي بشكل خاص ذكرى شهادة الانسان النبيل موسى الكاظم الذي ضرب اروع مصداق لمفهوم الصبر والاباء ، في قبال همجية اعتى طغاة زمانه هارون العباسي ، الذي كان يبتغي كسر ارادة الانسان المصلح او ثنيها باي ثمن ، من دون جدوى فقد تحطمت موجات هجماته على سفح جبل الصبر الاشم وجوهر الاباء ، فاذا بجبروت الظالم قد انكسر وتهاوى لان : ((مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18))، واذا بقهر بطش الطغاة يتلاشى امام منهاج الانبياء ، والذي احياه شبيه المسيح وسمي الكليم
واليوم حري بنا ان نستشف بعض الدروس من هذه المدرسة العظيمة في الصبر والاباء ، عسى ان نتمكن من ازالة ترسبات حالات الخضوع والذل والاستكانة التي نشعر بها امام النفس الامارة ، وامام الطغاة والفاسدين ليحل محلها الصبر على البلاءات والثبات على النهج الانساني والقيم النبيلة حينها ستتمكن الامة من النهوض الحقيقي وتبدأ بتصفير ساحتها شيئا فشيئا من الطغاة والفاسدين .
المحور الاول. الاسباب التي ادت الى اعتقال الامام موسى الكاظم(عليه السلام).
لا يمكن معرفة جميع الاسباب التي ادت الى اعتقال الامام موسى الكاظم(عليه السلام)، ولكن يمكن ذكر مجموعة من الاسباب والتي ذكر بعضها في المصادر التاريخية والاخرة تستشف من السيرة العطرة للإمام الكاظم والمتيسرة للاطلاع وهذا المحور يتكون من ثلاثة نقاط وكما يلي:
اولا. من ميزات حادثة سجن الامام موسى الكاظم(عليه السلام):
1.اول امام في سلسلة ابائه المعصومين(عليهم السلام)، تعرض لهذا النوع من البلاء
2.طول فترة بقائه(عليه السلام)، في السجن من جهة والقيام بنقله لأكثر من سجن من جهة ثانية والذي كان آخرها سجن السندي بن شاهك
3.بعد مواقع السجون التي اودع فيها الامام الكاظم (عليه السلام)، عن محل سكناه وتواجد اسرته وعياله(عليه السلام)
4.ارتكاب جريمة قتله واغتياله في السجن على يدي السندي بن شاهك
5.الاساءة الى جسده الطاهر من خلال عدة امور والتي منها تركه مقيد بسلاسل الاغلال ، ووضعه على الجسر والنداء عليه بذل الاستخفاف تنفيذا لأمر الطاغية هارون العباسي وهذا ما قوبل بالاستهجان حتى من قبل سليمان بن ابي جعفر الدوانيقي.
ثانيا. هنالك جملة من الاسباب والمبررات التي ذكرها المؤرخين حول اسباب الاعتقال
*. كوشاية بعض اقرباء الامام عند هارون العباسي بسعي وتدبير من يحيى البرمكي.
*. او حادثة السلام على رسول الله في المدينة حينما خاطب هارون رسول الله بالسلام عليك يا بن العم وخاطب الامام جده بـ السلام عليك يا ابة (راجع اخبار الدول ص113 وفيات الاعيان 1/394 ومرآة الجنان 1/395
*. او حادثة بيان حدوك فدك(2/381) ...
وهذه مبررات مذكورة ومسجلة تاريخيا ، ولكن حينما يتم النظر الى الموضوع بنظرة ادق واعمق ، نجد ما يلي:
1.ان السلاطين وخصوصا الطواغيت منهم لا ينفكون عن مراقبة الشخصيات البارزة في المجتمع سيما التي يرون فيها منافس كبير لهم من جهة وغير خاضعة لأهوائهم ، ولا تسير في فلكهم من جهة ثانية
2. كان الامام الكاظم(عليه السلام)، شاخصا ايمانيا بارزا في جسم الامة الاسلامية فهو زعيم الاسرة النبوية الشريفة في زمانه ، تلك الاسرة المتربعة على كرسي منابع العلوم ومحاسن الآداب من جانب ، والواقفة على عتبة ارفع مكانة من ناحية الوجاهة والمهابة الاجتماعية من جانب ثاني ، والحاملة للواء المواجهة مع جهة الباطل والفساد منذ ان رفع آذان التوحيد على المآذن والى اليوم.
اذن، هارون العباسي واعتبارا من اللحظات الاولى التي استولى بها على مسند الخلافة قد وضع مراقبة ومواجهة الامام الكاظم على راس اولوياته خوفا على مصلحة كرسي سلطته ، والذي طالما صرح بانه لو نازعه عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأخذ الذي فيه عينيه ، وهذا السلوك ليس غريبا على الطواغيت ومن سار على نهجهم في مراقبة الشواخص الانسانية الاصلاحية العالية الموجودة في الامة والتي تميل لها اعناق طبقة كبيرة من المجتمع ، فالطواغيت يحاولون جاهدين استمالة هذه الشواخص لكي تكون خاضعة لهم او تسير في فلكهم وعلى اقل التقادير اسكاتهم وتحجيم بعدهم الحركي الى اقل قدر ممكن ، والا فهم لا يتوانون عن استعمال آخر ورقة في جعبتهم الا وهي ورقة الاعتقال او القتل ، ولما كان:
1. للإمام الكاظم(عليه السلام)، مكانة عالية في نفوس الامة حتى تم التصريح ولأكثر من مرة ، بان شطر هذه الامة تنظر للإمام بعنوان الامامة وخلافة رسول الله
2.عدم وجود اي مبرر او مسوغ او منفذ لأمر القتل ، عمد الطاغية الى القيام بحيلة مختلقه متكونه من عدة عناصر:
العنصر الاول. وقوفه امام ضريح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قائلا بصوت عالي يسمعه الحضور : بابي انت وامي يا رسول الله ، اني اعتذر اليك من امر عزمت عليه اني اريد ان آخذ موسى بن جعفر فاحبسه لأني قد خشيت ان يلقي بين امتك حربا يسفك فيها دمائهم (البحار 17/296)، وهذه حيلة خبيثة لا تنطلي الا على السذج من الناس حينما يمارس الخداع بهذا الشكل فيظهر انه مجبور على هذا الاعتقال خوف الفتنة كمثل فرعون حينما قال : ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26)).
العنصر الثاني. عمل موكبين احدهما حقيقي والذي تم فيه تسفير الامام الى سجن البصرة ، والثاني للتمويه المنطلق باتجاه الكوفة .
العنصر الثالث. معرفة مدى ردة فعل القواعد الشعبية اتجاه امر الاعتقال فان كان هنالك رد فعل كبيرة ومؤثر عمد الى حيلة ثانية ، وقد يقوم بإطلاق سراح الامام والا فانه ماضي للخطوة الثانية الا وهي قتل الامام ، باعتبار ان رد الفعل الحركي في الشارع من قبل القواعد الشعبية لا يشكل خطر او بالإمكان احتوائه
اذن من الممكن ان يستشف الفرد بعض الاسباب الاخرى التي دفعت هارون العباسي الى ارتكاب جريمة اعتقال الامام الكاظم والتي منها ما يلي:
1ـ اعتقال الامام الكاظم عليه السلام كان نتيجة محورية وجوده الحركي وعظيم نتائج ابعادها ، فان رفض الامام الكاظم للظلم والجور المسلط على الناس من قبل السلطة الحاكمة ، لابد ان يسري شعوره للناس ، لذا قام الطاغية العباسي باعتقال الامام ، من اجل تحجيم طاقاته وعرقلة بعده الحركي الواقع في خدمة الانسانية .
2ـ اعتقال الامام الكاظم عليه السلام كان من اجل كسر ارادة المعصوم او ثنيها ، باستخدام وسيلة السجن وما يصاحبها من افرازات شديدة الالم وآثار مؤذية .
3ـ تخويفا لباقي الناس وخصوصا الرافضين للظلم والفساد، بان هذا مصير كل من يعترض على السلطة الحاكمة ويستنكر فسادها او يستهجن افعالها واعتباره خارجا عن قانونها.
4ـ عقوبة لعائلة الامام والذين ينالهم حيف كبير نتيجة اعتقال والدهم ومعيلهم ومربيهم ، وفي ذلك وسيلة ضغط اخرى على المصلح
5ـ إشباعا لغرور وتكبر الظالم الذي اعماه الحسد والحقد ، فنفسه الامارة بالسوء تشعر بنشوة حينما يقوم برمى من يراه خصما وندا له في طوامير السجون ويبالغ في تعذيبه والحاق الاذى به .
ثالثا. ذكر في اعلاه انه قد يكون الامر الاولي للطاغية هارون العباسي ، هو قتل الامام الكاظم ، ولكنه ارتأى اولا اعتقاله ليرى مقدار ردة فعل الجماهير فان كانت خطيرة عمد الى حيلة اخرى وان كانت ليست خطيرة ومن الممكن احتوائها مضى في ارتكاب جريمة القتل ، وفعلا حينما كانت ردة فعل الجماهير اتجاه جريمة الاعتقال ضعيفة التأثير ببعدها الحركي ، اصدر الطاغية العباسي اوامره الى والي البصرة عيسى بن ابي جعفر العباسي ، بان يقتل الامام الذي كان معتقلا عنده في البصرة ، ولكن الاخير رفض تنفيذ الامر وذلك لعدة اسباب محتملة والتي منها:
اـ لما رأى من كرامات الامام ورفيع اخلاقه وغزير علمه وعظيم عبادته
ب ـ ان الكثير من علماء البصرة ووجهائها بالإضافة الى غيرهم ، حينما علموا بوجود الامام في سجن البصرة ، سعوا الى التشرف بلقاء الامام(عليه السلام) ، كـ ياسين الزياتي ، اي ان موضوع وجود الامام الكاظم قد انتشر بين الناس في البصرة وغيرها ، وعليه فمن المحتمل ان الوالي العباسي قد رأى في ارتكاب جريمة القتل ضرر كبير على مصالحه الخاصة والعامة حينما ينتشر الخبر ، سيما وان مثل هذه الجريمة لا يمكن اخفائها باي حال، لذا طالب هارون العباسي بان يعفو عن الامام او يبعث اليه من يستلمه منه ، وفعلا بعث هارون مجموعه من اعوانه قامت بنقل الامام الى بغداد ، وقد قرر هارون العباسي بإلقاء الامام في سجون خاصة لكي لا يكون هنالك اي نوع من الاتصال بينه وبين عامة الناس فيسري تأثير الامام عليهم ، وفعلا اودع في سجن دار الفضل بن الربيع بن يونس والذي رفض ايضا تنفيذ جريمة القتل لما رأى من شدة عبادة وصلاح الامام وورعه وتقواه
لذا تم نقل الامام الى سجن الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي ، وهذا الاخير ايضا رفض تنفيذ جريمة القتل حينما كان الامام مودع في سجن داره ، مع ما يستتبع ذلك الرفض من ارهاصات قد تكون وخيمه ضد مصالحهم من قبل الطاغية هارون العباسي ومع ذلك راو عدم تنفيذ جريمة القتل هي الاسلم لهم
المحور الثاني. من دروس الصبر والاباء والتي احيت منهاج الانبياء.
1.لقد تمنى هارون العباسي ومنذ ان اصدر اوامره باعتقال الامام والى لحظة استشهاده بان يحصل على التماس عفو او طلب بإطلاق السراح من قبل الامام الكاظم (عليه السلام)، ولكن هذا لم يحصل بتاتا بل على العكس ، شاهدوا من الامام اروع معاني الانسانية وقيمها النبيلة ، من نفس مطمئنه ابيه على الضيم وتأبى الخنا والخضوع، بل انه قد قيل للإمام الكاظم (عليه السلام) :« لو كتبت إلى فلان يكلّم فيك الرشيد ؟ فقال : حدّثني أبي عن آبائه : أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى داود : يا داود ، إنّه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني ... إلّا وقطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الأرض من تحته (تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١٤)». ومن هنا يمكن ان نستشف درسا قيما وهو:
عدم استجداء العفو من الظلمة او الدخول في مساومات معهم والضعف امام ترغيبهم او ترهيبهم فالبقاء في سجن الظالمين المادي افضل من الدخول في سجن مولاتهم.
2.لم تكن القوة المسلحة التي اعتقلت الامام الكاظم (عليه السلام)، ولا التي رافقته الى سجن البصرة ولا الذين رافقوه من البصرة الى بغداد ولا الذين شاهدوه في سلسلة تنقلاته بين زنزانات الظالمين ، قد رأوا او عايشوا مثل الامام الكاظم نورا وبهجة ورقتا في التعامل ولطفا في الكلام ، وكان الكل كما هو مسجل تاريخيا ينصعق لأول نضره تقع عليه من الامام ، فالكل يقف امامه مبهورا ولهيبته متواضعا ، ومن هنا نستشف درسا:
ان الذي سعى جاهدا في ازالة الشوائب والادران من ساحة نفسه ، حتى طهرت وطابت بالطيبات ، سوف لن يرى منه الاخرين غير الطيب ، لأنه لن يصدر منه الا الطيب ولا يفوح منه الا عطر الطيب.
3.لم يسمعه الذين راقبوه في زنزانات السجون بانه قد دعا على احد بالعذاب او شتم احدا ، او طلب طعاما او شرابا من احد او تأوه واشتكى ، وكانوا مذهولين من شدة عبادته لله وانقطاعه اليه وسلوته به ، حتى شهد القريب والبعيد والشريف والدنيء والمحب والمبغض بان الامام الكاظم هو راهب من رهبان بني هاشم ، صاحب السجدة الطويلة ذي الثفنات
وفي ذلك درس لنا بان الدنيا كلها عبارة عن سجن للمؤمن وجنة للكافر فينبغي لنا ان نستغل هذا الوجود المحدود بالأجل في كل ما بشأنه رقينا وتكاملنا لنسعد بالنشأة الاخرة والحياة الحقيقية.
4.كان شديد كظم الغيض سيما مع الذين بالغوا في اساءة الادب معه وامعنوا في ظلمه وتعذيبه ، واغلبهم طار لبه من صبر الامام وشدة حلمه ، ومن العجب العجاب وجود انفس شريرة الى اقسى حد ممكن كالسندي بن شاهك الذي اسرف في مواجهة الامام بأقسى وابشع انواع المعاملة واقذر الكلمات ، ومع ذلك كان الامام يقابله بكل حنان وعطف يبتغي هدايته ويتمنى صلاحه.
5.لقد سجل التاريخ حادثة وشاية احد اقرباء الامام عند السلطة الظالمة ، وكان الامام قد سعى من اجل انقاذ هذا الشخص من وادي الخيانة وبئر الخطيئة من باب الابوة الانسانية وصلة الرحم ، وهذا وان كان مؤشر بان السلطة الظالمة لا تألوا جهدا في استغلال أي فرصه ضد القائد المصلح وخصوصا من المحسوبين عليه للقيام بشراء ذممهم من اجل الحاق الاذى بهم الا انه ينبهنا الى:
اـ عدم التأثر بمن يقع في هاوية حب الدنيا نتيجة الغربلة والتمحيص مهما كان عنوانه.
ب ـ الالتزام الكامل بأوامر وارشادات وتوجيها القائد المصلح ففي ذلك مجموعه من الحكم اكيدا ومنها حمايتنا من ان نقع في شباك الاعداء وحفر خدعهم والاعيب مكرهم.
6ـ ان هذه المحنة تؤشر الى اهمية وجود المصلح الذي يحي منهاج الانبياء ، علما ان اهمية هذا الوجود ليس فقط من باب النهل من علومه والتخلق بأخلاقه ، بل ان وجود القائد المصلح ضرورة لابد منها لطي مراحل الرقي الانساني وعليه فان:
ا. في محنة سجن امامنا الكاظم(عليه السلام) درس بليغ لنا في كيفية التصرف اثناء غياب شخص القائد المصلح
ب. لقد اشرت هذه المحنه على وجود حالات من الضعف والاستكانة عند البعض منا حيث لازالت ترسباتها في قعر بعض نفوسنا لذا يجب المسارعة في ازالتها .
واخيرا ها هو ضريح الامام موسى الكاظم(عليه السلام) ، اصبح مزارا ومنارا للإنسانية تهوي اليه قلوب الطيبين من كل جانب ومكان ، تعانق قبته عنان السماء وتصدح مآذنه بترنيمة الخلود ، وكانه يقول :
ان السَجينَ سَجينَ الذنوب *** وللموبقات فعال القيــــــــود
واني ضريح الحليم الكريم *** تقي بفضله نلتُ الخلـــــــود
شبيه المسيح سمـي الكليم *** امام صبره فاق الحــــــــدود
امام بنوره انار البـــــلاد *** على الخلق دوما سخيا يجـود
ولي الالـه مثال الصمود *** وجيــــها شفيعا بيوم الورود
فـبغداد تزهو بالكاظمين *** كزهو الندى فوق خد الورود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق