حينما تم اغتصاب مسند الخلافة، ظهرت الكثير من المظالم ، والتي منها موضوع الرقيق ، الذين اكتظت بهم أسواق النخاسة وما افرزت هذه العملية من آثار سلبية ادت الى انكماش معظم أهالي هؤلاء الرقيق في بلدانهم عن الالتحاق الحقيقي بالدين الإسلامي لما لاقوه من قسوة وتعسف الكثير من الجنود وقادتهم...
ولأن خدمة البشرية ورفع الحيف الواقع على الناس من صميم واجبات قادة الانسانية والذين هم اوصياء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا فانهم افنوا اعمارهم في سبيل ذلك الهدف النبيل ، ومن هؤلاء النبلاء المصلحين ، الامام السجاد (عليه السلام) ،الذي حاول جاهدا ازالة المتعلقات السلبية التي لحقت بالكثير من هؤلاء الرقيق نتيجة ظلم وفساد السلطة السياسية واتباعها ، وقد جرى ذلك بالرغم من تقية الامام المكثفة نتيجة الظروف الصعبة التي كانت محيطه بالامام (عليه السلام)
وفي هذا المبحث يتم التعرض لبعض ما سجله التاريخ من صور رائعة تمثل في حقيقتها جانب من جوانب بعد الامام الاصلاحي لاسيما المتعلق منه بالسبايا والرقيق
فلقد كان الإمام السجاد(عليه السلام)، بين فترة وأخرى وعلى طيلة فترة حياته الشريفة ، يقوم بشراء مجموعة كثيرة من الرقيق ويجلبهم بقربه ، ليرافقونه فترة من الزمن يعاينون ذاته ويعايشون صفاته ويسمعون كلامه ويرون افعاله ، فيتعلمون منه بالمباشر فكرا مثاليا بجميع أبعاده الاخلاقية والنفسية والعقائدية والتطبيقية...، أي انهم ينهلون من فيض مدرسة نموذجية بكل ما تحمل من قيم انسانية نبيلة ومبادئ اخلاقية سامية
*.فقد رأوا كيف تعامل الإمام السجاد (عليه السلام)، مع الجارية التي كانت تحمل إبريقا وتسكب منه الماء لوضوئه ، فيسقط ذلك الابريق من يدها على وجهه(عليه السلام)، فشجه وسال دمه فرفع رأسه(عليه السلام)، إليها، فقالت له الجارية ، إن الله يقول:
(والكاظمين الغيظ ) فقال (عليه السلام) :
قد كظمت غيظي، فقالت( والعافين عن الناس ) فقال (عليه السلام) :
عفا الله عنك، فقالت (والله يحب المحسنين)، فقال (عليه السلام):
أنت حرة لوجه الله .
انظر الى مستوى تعليم الجارية وكيفية تعاملها مع الموقف الذي تعرضت له ؟
*.جاء في مناقب ابن شهر آشوب وكشف الغمة إن ضيوفا طرقوا الإمام(عليه السلام)، فاستعجل خادما له بشواء كان في التنور فأقبل به الخادم مسرعا فسقط السفود منه على رأس طفل له(عليه السلام)، فقتله فتحير الخادم واضطرب، فلما نظر إليه وهو بتلك الحالة قال (عليه السلام) له :
انك لم تتعمده اذهب فأنت حر لوجه الله .
فهل يا ترى هنالك درس في الحلم وكظم الغيظ والعفو عند المقدرة أروع من هذا الدرس وابلغ في المعنى.
*.روى السيد ابن طاووس في الإقبال بسند ينتهي الى الإمام الصادق(عليه السلام)، إن على بن الحسين (عليهما السلام)، إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبدا له ولا امة (إذا أذنبوا) وإذا أذنب عبدا له أو أمة يسجل ذلك عليهم , فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها ، فيقول لهم :
قولوا يا علي بن الحسين ، إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وتجد كل ما عملت لديه حاضرا كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضرا فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح
وهو(عليه السلام) واقف بينهم يبكي ويقول :
ربنا انك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت فاعف عنا فانك أولى بذلك منا ومن المأمورين
ثم يقبل عليهم ويقول :
لقد عفوت عنكم فهل عفوتم ما كان مني إليكم اذهبوا فقد أعتقت رقابكم طمعا في عفو الله وعتق رقبتي من النار
فإذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس . وكان (عليه السلام) يقول :
إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار، فإذا كان آخر ليلة منه اعتق الله فيها مثلما اعتق في جميعه ، وأني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقابا في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار.
فما أروعه من درس تتجلى فيه اروع صور الرحمة والرقة والعفو والحنان والتواضع والكرم والرأفة واللطف والإحسان الإلهي.
ولقد كان الرقيق يرون كيف إذا توضأ الإمام السجاد(عليه السلام) للصلاة اصفر لونه، وإذا قيل له(عليه السلام) : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ، يقول (عليه السلام):
أتدرون بين يدي من أريد أن أقف
وإذا قام الى الصلاة أخذته رعدة فيقال له :مالك يا بن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فيقول(عليه السلام) :
ما تدرون لمن أريد أن أناجي
*.ووقع حريق في داره(عليه السلام) وهو ساجد ، فاجتمع الناس وقالوا : النار النار يا بن رسول الله، فلم يكترث ولم يرفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له : ما الذي ألهاك عنا ؟ فقال (عليه السلام):
ألهتني النار الكبرى
*.قال الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس)(شذرات من فلسفة..ص113):
.. روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام، أنه كانت له عدة مناهج في نفع المجتمع، فمنها: إنه كان يشتري العبيد ويستخدمهم لمدة سنة ثم يتخذ ثلاث خطوات:
الأولى: يبرئ ذممهم
الثانية: أن يعطيهم مالاً
والثالثة: أن يعتقهم
فإذا كان الأمر لمجرد العتق فلماذا يبقيه عنده سنة كاملة؟ في حين أنه يمكنه أن يعتقه بمجرد أن يشتريه.
وإنما الشيء الرئيسي الذي يريده الإمام عليه السلام هو أن يتربى الفرد في خلال هذه السنة، فيحملون من الفقه والورع من الإمام وأسرته الشيء الكثير فيكونون ألسنة ورع وألسنة ثناء وألسنة طاعة لله ولرسوله ولأمير المؤمنين ولكل المعصومين عليهم السلام.(انتهى)
اي ان هذه الدروس كانت منهج نموذجي لإزالة جميع المتعلقات السلبية التي لحقت بهؤلاء الافراد في موطنهم الاصلي من جانب ونتيجة السبي وآثاره من جانب ثاني ، مما ادت الى عودة هؤلاء الافراد الى فطرتهم السليمة ، أي تصفير ساحة انفسهم من الشوائب والادران لينبثق بعدها وجود لهم مرتبط بالله من خلال ذات وصفات ولي الله ، فيتم بعد ذلك عتق رقاب هؤلاء المتخرجين من انبل مدارس الانسانية ، ليكونوا دعاة للإنسانية واسوة وقدوة لمجتمعاتهم .
*.نقل السيد الأمين في أعيان الشيعة ، إن الإمام (ع) يعتق في كل ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأس الى أقل أو أكثر ، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان اعتق فيها مثلما أعتق في جميعه.
وكذلك كان الإمام(ع) يأتي بهم الى عرفات فيسد بهم تلك الفرج فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال ، وهكذا طيلة حياة الإمام(ع) حتى وصل عدد الذين اعتقهم الإمام(ع) عشرات الألوف ، وكان البعض من هؤلاء الافراد يرفضون الذهاب الى بلدانهم وأهاليهم بالرغم من عتق رقابهم وإعطائهم ما يكفيهم من المال ، ويصرون على البقاء في المدينة المنورة قريبين من الإمام السجاد (عليه السلام)، لأنهم أصبحوا لا يقوون على مفارقته ، حتى نقل إن المدينة المنورة كانت مليئة بموالين السجاد(ع)، وكان لهذا العمل نتائج عديدة والتي منها ما يلي:
1ـ قيام القائد الانساني المصلح بإنقاذ هؤلاء الناس من الحيف والظلم الذي وقع عليهم من الظالمين المنتحلين لاسم الاسلام زورا وبهتانا .
2ـ تشجيع الناس لاسيما المؤمنين منهم على إتباع هذا المنهج والسلوك مع هذه الفئة(الرقيق)، التي تعرضت لظروف قاسية.
3ـ قيام الإمام(عليه السلام) بصد محاولات البعض لإرجاع الكثير من سلبيات الجاهلية ونزعات الطبقية والعنصرية من جانب ، والسعي لتثبيت قاعدة :
إن أكرمكم عند الله اتقاكم ، في المجتمع من جانب ثاني .
4ـ تعريف شعوب البلدان المفتوحة باسم الإسلام ، بأن الإسلام شريعة سهلة سمحاء ، وانه(الاسلام)، هو غير ما تدعيه وتمارسه السلطات السياسية الفاسدة وأعوانهم ، وقد جرى هذا التعريف من خلال عدة عناصر والتي منها هؤلاء الذين تم عتقهم ليصبحوا دعاة حق وانسانية في بلدانهم ، فيقومون بنقل وممارسة جوانب الاصلاح التي تعلموها من الإمام السجاد(عليه السلام)، فيبينون لأهاليهم ومعارفهم بان دين الاسلام الحقيقي هو المتمثل بعترة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، إضافة إلا إن الكثير منهم سوف لن يتركوا مواصلة الارتباط بالإمام السجاد(عليه السلام) ، بل يبقون على اتصال دائم معه ومع اهل بيته لأخذ الأحكام والتعاليم لكل أمر اجتماعي او ثقافي او شرعي مستجد يواجههم ومجتمعاتهم فيكونوا بذلك أشبه بالرسل، او السفراء ، أو الوكلاء للقادة المصلحين (عليهم السلام).
5ـ درس لجميع الاجيال البشرية بأهمية خدمة الانسانية ومواساة المظلومين والمحرومين ، وإنصافهم قدر المستطاع لرفع الحيف الذي أصابهم من أيدي الظالمين والفاسدين.
من المصادر:
(1) شذرات من فلسفة ...... لشهيد الله السيد محمد الصدر,ص123
(2) أعيان الشيعة للسيد الاميني ج2ص468
(3) زين العابدين(ع) لسيد الأهل ص7
(4) سيرة الأئمة .... للسيد هاشم معروف الحسني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق