الدون كيخوتي ، رواية ولدت في زنزانة سجن
ولكن في اي زنزانة سجن ولدت؟
افي زنزانة السجن المادي ، ام هو سجن النفس وزنزاناتها ؟
ام كلا السجنين اتحدا لإنجابها ؟
وهل هي رواية حقا ، ام انها رسالة تحتاج الى اعادة قراءة من جديد ، للتعرف على ابعادها الانسانية ومقدار تأثيرها وماذا تريد ؟
يتكون المبحث من ثلاثة محاور وخلاصة المبحث:
المحور الاول. ويتكون من النقاط التالية:
اولا. من هو كاتب رواية الدون كيخوتي
هو الاديب ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا،(بالإسبانية: Miguel de Cervantes) جندي وكاتب مسرحي وروائي وشاعر إسباني ، ويعد إحدى الشخصيات الرائدة في الأدب الإسباني على مستوى العالم ، واشتهر عالميًا بعد كتابة هذه الرواية ، التي يعتبرها البعض واحدة من بين أفضل الأعمال الروائية المكتوبة قبل أي وقت مضى، واعتبرها الكثير من النقاد بمثابة أول رواية أوروبية حديثة وواحدة من أعظم الأعمال في الأدب العالمي
ولد في مدينة ألكالا دي إيناريس التابعة لمنطقة مدريد، عام 1547.
في عام 1569، هرب ثيربانتس إلى روما ، خوفا من الاعتقال الصادر بحقه من ملك إسبانيا فيليب الثاني بعد اتهامه بجرح عامل البناء أنطونيو سيجورا على خلفية مبارزة بينهما، وقد عمل في روما مساعدًا لكاهن من الأثرياء يدعى : خيوليو أكواببيبا وهو كاردينال الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في فترة بابوية بيوس الخامس ، وفي السنة الثانية اصبح كاردينالًا .
عام 1575، تم تجنيده في قوات المشاة البحرية الإسبانية ، ونتيجة احد المعارك تم اسره لمدة خمسة سنوات في الجزائر ، ثم أطُلق سراحه بفدية ، وعاد إلى مدريد.
بعد عام 1582، ارتبط بعلاقية غرامية مع آنا بييا فرانكا دي روخاس، وهي امرأة لأحد عمال الحانات ويدعى ألونسو رودريجيث. ونتج عن هذه العلاقة غير الشرعية ابنته التي تسمى : إيزابيل دي سابيدرا ، والتي اعترف بها لاحقا
وفي عام 1585، نشر ثيربانتس أول رواية له باسم لا جالاتيا.
في عام 1597 حبس في السجن الملكي في إشبيلية ، ولمدة ثلاث سنوات بتهمة اختلاس المال العام بعد ثبوت وجود مخالفات في حساباته.
وفي عام 1605، نشر الجزء الأول من روايته دون كيخوتي في مدريد
في عام 1607، استقر في مدريد حتى وفاته، ونشر روايات النموذجية عام 1613 و قصيدته الشعرية رحلة إلى جبل بارناسوس عام 1614، وهي قصيدة مطولة في شكل ثلاثيات ، وفي عام 1615، نشر ثماني كوميديات وثمانية فواصل تمثيلية مع الجزء الثاني من رواية دون كيخوتي.
توفي في مدريد، عام 1616. عن عمر ناهز التاسعة والستين بعد إصابته بمرض السكري في منزله المعروف حاليًا باسم كاسا دي ثيربانتس، في محيط ما يُعرف باسم مدريد القديمة.
ثانيا. مختصر رواية الدون كيخوتي
رواية الدون كيخوتي دي لا ما نتشا (بالإسبانية: Don Quijote de la Mancha)
طبعت في دار نشر خوان دي لا كويستا في 87 شارع أتوتشا في مدريد، عام 1604، وخرجت لسوق المبيعات في يناير 1605، ونشرت على جزئين:
الجزء الأول باسم، العبقري النبيل دون كيخوتي دي لا ما نتشا، وظهر عام
1605 ، والجزء الثاني تحت عنوان العبقري الفارس دون كيخوتي دي لا ما نتشا ظهر عام 1615.يعتبرها ذوي الاختصاص ، انها من صنف السخرية أدبية، تهكمية، هزلية
بدأ الكاتب الجزء الأول بمقدمة يسخر بها من سعة المعرفة المتحذلقة مع بعض القصائد الفكاهية التي تمدح أعمال الكاتب نفسه كنوع من التمهيد
تدور أحداث الرواية حول شخصية ألونسو كيخانو، رجل نبيل طويل نحيف قارب الخمسين من العمر يقيم في احدى قرى إقليم لامانتشا ابان القرن السادس عشر ، وكان مولعًا بقراءة كتب الفروسية والشهامة بشكل كبير ، بحيث انه لم يتزوج من كثرة قراءاته. كاد ان يفقد عقله وينقطع ما بينه وبين الحياة الواقعية نتيجة قلة النوم والطعام وكثرة القراءة ، ثم يبلغ به الهوس حدا يجعله يفكر في ان يعيد دور الفرسان الجوالين وذلك بمحاكاتهم والسير على نهجهم حين يضربون في الارض ويخرجون لكي ينشروا العدل وينصروا الضعفاء، ويدافعوا عن الأرامل واليتامى والمساكين. فيقرر ترك منزله وعاداته وتقاليده ويشد الرحال كفارس شهم يبحث عن مغامرة تنتظره، بسبب تأثره بقراءة كتب الفرسان الجوالين، وأخذ يتجول عبر البلاد حاملًا درعًا قديمة ومرتديًا خوذة بالية ورمحا قديما متآكلا خلفه له آباؤه ، مع حصانه الضعيف روسينانتي حتى أصبح يحمل لقب دون كيخوتي دي لا ما نتشا، ووُصف بـ فارس الظل الحزين. وبمساعدة خياله الفياض كان يحول كل العالم الحقيقي المحيط به، فهو يغير طريقته في الحديث ويتبنى عبارات قديمة بما كان يتناسب مع عصر الفرسان. فيما لعبت الأشخاص والأماكن المعروفة دورًا هي الأخرى بظهورها أمام عينيه ميدانًا خياليًا يحتاج إليه للقيام بمغامراته. تذكر وهو سائر في طريقه فرحا مزهوا ان الفارس الجوال لا بد له من تابع مخلص أمين، فعمد الى فلاح ساذج من ابناء بلدته ، وهو جاره البسيط سانشو بانثا لأقناعه على ان يكون تابعا له وحاملا لشعاره ومرافقا له ليكون حاملًا للدرع ومساعدًا له مقابل تعيينه حاكمًا على جزيرة ، ويصدقه سانشو لسذاجته ويضع خرجه على حماره ويسير خلف سيده الجديد ، حيث بدأت شخصيتهم في التكشف رويدًا رويدًا وتربطها صداقة قائمة على الاحترام المتبادل ، و كان سانشو بانزا ضخم الجثة بعكس صاحبه دون كيخوتي الطويل الهزيل.
ويقع الدون كيخوتي بحب جارته الفتاة القروية دولثينيا، حبًا أفلاطونيًا، على انها سيدة نبيلة ، وذلك عن بعد دون علمها.
من اشهر احداث الرواية في الرواية : معركة طواحين الهواء اذ توهم أنها شياطين ذات أذرع هائلة فهاجمها غير مبالٍ إلى صراخ تابعه وتحذيره له، حيث رشق رمحه تجاهها فرفعته أذرعها في الفضاء ودارت به وطرحته أرضًا فرضت عظامه ، ثم يكمل مسيرته ويعتقد بوجود زحف جيش جرار يملأ الجو غبارًا وضجيجًا، فيندفع بجواده ليخوض المعركة التي أتاحها له القدر . ولكنه في الحقيقة كان قطيعًا من الأغنام، وتسفر المعركة عن قتل عدد من الأغنام وعن سقوط دون كيخوتي نفسه تحت وابل من أحجار الرعاة افقدته بعض أضراسه، ، وهنالك ايضا سلسلة من المعارك الوهمية التي وقعت له مع الرجل الباسكي المشاكس والرجل الذي كان يجلد نادله وبعض الرهبان البينديكتين الذين كانوا برفقة تابوت إلى مدفنه بمدينة أخرى، وفي نهاية المطاف، يقوم بعض جيرانه بإلقاء القبض عليه، ويقومون بإعادته إلى قريته داخل قفص.
ثالثا. اراء متعدد حول كتابة رواية الدون كيخوتي نذكر منها ما يلي:
رأى بعض المحققين والكتاب ان ثيربانتس كتب رواية الدون كيخوتي نتيجة لـ :
1. تأثره بأعمال ، مثل تيرانتي الأبيض لجوان مارت ورل ، والمور غنتي للشاعر الايطالي لويجي بولشي ، وأورلاندو الهائج للشاعر الايطالي لود فيكو أريوس تو
2.والبعض الآخر يرى أن ثيربانتس ربما يكون استوحاها من قصة الحمار الذهبي للوك يوس أبوليوس .
3. الدكتور جوزيف إلياس اللبناني، الذي ترجم وحقق نسخة دار العلم للملايين : يرى أن التأثير الأندلسي يبدو واضحًا في الرواية، من حيث ظهور ملامح من أبطال القصص العربية والإسلامية أمثال سيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد والظاهر بيبرس.
4. البعض يراها محاكاة ساخرة للسيرة الذاتية المخطوطة يدويًا من قبل سان إجناثيو دي لويولا، والتي حاول اليسوعيون إخفاؤها
5. الشاعر الفرنسي ألفريد دي فيجن تخيل أن ثيربانتس كان يحتضر عندما أعلن عن رغبته في رسم صورة لفارس الظل الحزين بقلمه.
اذن هنالك الكثير ممن يرى وجود دواعي من وراء كتابة هذه الرواية الا انهم اختلفوا في تحديد حقيقة تلك الدواعي
المحور الثاني. مناقشة رواية الدون كيخوتي
اولا. قبل الدخول في المناقشة من النافع الالتفات الى ما يلي:
1.تم اختيار هذه الرواية لأنها تمثل ادبا لكاتب سجين ، ولكنه لم يكن سجين سياسي او عقائدي او فكري ، انما سجين بسبب الاخلال في النظم الانسانية ، وهذا بداية تحول غريب دراماتيكي في كتابة القصة يكون فيها القلم المخالف والمنتهك للعدالة الانسانية موجها ومحركا في مسرح الانسان.
2. هذه الرواية التي صدرت عام 1604 وطبعت عام 1605 ، تم توزيعها ونشرها بشكل كثيف وفي مناطق متعددة بحيث انها طبعت في بلدان اخرى وبيعت بسعر اقل من سعرها الاصلي في مملكة قشتالة صاحبة امتياز طباعتها ، بالإضافة الى ترجمتها الى عدة لغات عالمية فقد ترجمت الى اللغة الإنكليزية عام 1612 على يد توماس شيلتون . والفرنسية عام 1614 ، والإيطالية عام 1622، والألمانية عام 1648 والهولندية عام 1657 ...، وتسويقها على انها واحدة من أعظم الأعمال في الأدب العالمي ، واول رواية حديثة في اوربا ، والقيام بإنتاج سلسلة من الافلام السينمائية وكارتون الاطفال حولها ... ، وجعل جوائز ومسارح ومعاهد وجامعات ومؤسسات علمية وثقافية وصحية ، ومجلات ومهرجانات وعملات نقدية ونصب وتماثيل ولوحات باسم مؤلفها وابطال قصتها ، حتى ان أول رئيس وزراء لدولة إسرائيل دافيد بن غوريون يعلن انه قد تعلم اللغة الإسبانية حتى يتمكن من قراءتها بلغتها الأصلية...، فهل كل هذا كان طبيعي ، ام ان هنالك توجيهات مركزية بدعم ونشر وتسويق هذه الرواية عالميا ، ليس من باب روعة الرواية وحبكة صياغتها ودقة معانيها بل قد يكون لأسباب اخرى؟
وان كانت هنالك اسباب ودواعي من اجل نشر وتوزيع ودعم هذه الرواية ، فما هي هذه الاسباب ، سيما وان الرواية تصنف من نوع ادب السخرية والهزل والتهكم ، وهذا ما سوف يتم التعرف عليه من خلال المناقشة:
ثانيا. المناقشة.
1.شخصية الدون كيخوتي والتي قُدِّمَتْ بعنوان رجل نبيل بوضع اقتصادي ميسور ، قد افنى زهرة عمره في قراءة جانب من الارث الانساني المعرفي وخصوصا ما يتعلق بكتب الفروسية التي تمجد القيم النبيلة والمثل العليا ، كنشر العدل والدفاع عن المظلومين والوقوف بوجه المستبدين...
حتى وصل الامر به الى عشق هذه المثل العليا ، والعزم على تجسيدها في ارض الواقع حيث السير على نهج الفرسان واقتفاء اثرهم من اجل خدمة الناس واعانتهم.
مثل هذه الشخصية لماذا تصدر بانها حالمة متوهمة لاعقلانية ، بحيث يصل بها التوهم الى ان تكون محل ازدراء واستهزاء الجميع ، فتخسر وبشكل مؤسف سمعتها وصحتها وكرامتها، قال الشاعر البريطاني اللورد غوردون بايرون :
ان هذه الرواية قد وجهت ضربة قاصمة للفروسية في إسبانيا
فهل الانشغال بالمطالعة والتعمق بالبحث والتدقيق ، وعشق القيم النبيلة ومحاولة تجسيدها عمليا على ارض الواقع ، يؤدي الى السقوط في بئر الوهم بحيث يكون البسطاء من الناس اعقل من تلك الشخصية واكثر تدبرا وحكمة؟
وهل فعلا هو صراع بين المثالية والواقعية كما يقول الفيلسوف الألماني فريدريش شيلينج في عمله فلسفة الفن بتفسير المصطلحات الأكثر حداثة وتأثيرًا ، معتمدًا على المواجهة بين المثالية والواقعية، والتي حولت دون كيخوتي إلى مقاتلًا تراجيديًا ضد الواقع الفظ والعدائي في دفاعه عن مثالية غير قابلة للتطبيق.
عليه فمن النافع اعادة استقراء مفردات هذه القصة ورمزيتها ضمن اطار انساني اوسع واعمق فالمشكلة لا يمكن حصرها من خلال الفشل او النجاح لتجربة واحدة ، او بممارسة استثنائية هنا او هناك ، بل نحتاج الى فهم آلية التغيير في المجتمع الانساني بصورة اجمالية ، وتكون ضمن رؤية واضحة ومحددة ، فأي تحرك لأي انسان وفي أي مجال يعتمد على تسلسل عقلي لا يمكن ان ينفك بين فرد وآخر وهو كالتالي :
تحديد الهدف ، والتخطيط للوصول الى الهدف ، وايجاد الالية العملية المناسبة لتحقيق الهدف ، وهذه الخطوات لا تتم الا ببعد معرفي تختلف صورته ووضوحه من شخص لآخر ، وعلى سبيل المثال الفلاح البسيط الامي :
لا يمكن ان يستهدف ارضا ليزرعها بدون ان يكون الهدف واضحا في ذهنه ، وآلية التطبيق والتخطيط لهذا الامر ، اما معرفته فقد لا تكون عن طريق القراءة وانما تكون عن طريق السماع او من خلال التجربة العملية ، فكأنما نقرأ في الرواية فشلا انسانيا استثنائيا يمكن ان نقربه واقعيا من خلال مثال الفلاح الذي خطط للزراعة وحدد ارضا ، وقام فعلا بعملية الزرع ، ولكنه لم يحصل على ناتج يتناسب وطموحه ، فهل هذا يعني ان نقوم بإلغاء الزراعة ، نتيجة هذه التجربة الغير الناجحة ، ام نقول انها تجربة استثنائية، وهذا هو المقارب للواقع العملي ، والاقرار العقلي
بالتالي لا يمكن اعتبار قضية الساعي لإصلاح المجتمع الانساني الذي ينتج مجتمعا عادلا تسود فيه القيم والمثل العليا او ما يسمى في الادبيات المعاصرة بالمنقذ للبشرية او المصلح الانساني العالمي المحارب لظلم الطبقات السياسية الفاسدة والايديولوجيات المنحرفة ، لتحقيق حياة حرة كريمة يسودها العدل والأمان ، عبارة عن احلام خيالية لا يمكن تطبيقها على ارض الواقع بالرغم من طول جذور هذه العقيدة الضاربة في عمق التاريخ البشري .
2.لماذا يُصَدَّرْ تابع الفارس النبيل ، شانزوا بانثا بهذه السذاجة بحيث لا يملك من الانسان الا بدنه الخالي من الروح ، ولذا انقاد بيسر خلف الفارس النبيل بالرغم من ظروف معيشته الصعبة تاركا زوجته واطفاله ، والحقيقة اننا ننظر من خلال شخصية شانزو ، انها صفه لأبناء المجتمع الكادحين المستضعفين الذين يمثلون وقود الثورات التي تستهدف العدالة الاجتماعية ولا يمكن ان نتصور أي تغيير اجتماعي يكون افراده متساوين بالإدراك والفهم ولكن يكون تقدير صواب التحرك حسب قيمة الاهداف المرسومة له والالية التي يتم تطبيقها ولا يتم تقييم التحرك من خلال المستوى العقلي لأفراده والا اسقطنا قيمة كل الثورات التي طالبت بالحقوق وواجهت الظلم فهل كان المجتمع الفرنسي المعاصر للثورة الفرنسية متساويا في ادراكاته ، وهل يمكن اليوم ان نقول ، ان الذين اندفعوا لمواجهة ظلم لويس السادس عشر ، جسدا بلا روح
هذا في الحقيقة استخفاف في مفهوم جدا مهم وهو التضحية من اجل الآخر ، وحقيقة هذه الفكرة التي تدور محورية القصة حولها ، انما تمثل رايا ساذجا تردد في المجتمع الانساني على طول خط وجوده المتقاعس عن تحقيق المستقبل الافضل للبشرية ، قال تعالى:
((فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)) (هود من الآية :27)
فان صعود أي انسان في سفينة ، وسط عصر صحراوي الفكر والارض ، بعيد عن المياه من اجل ان يعيد بناء المجتمع الانساني على اسس القيم النبيلة التي تميل لها الفطرة الانسانية ، يمثل رؤية عميقة وشجاعة وتكامل عقلي ، يصفه المتقاعس بالحالم والمجنون والمتدني ، بينما هو في حقيقته المثال العملي والذي من خلاله تبنى المشاريع الجبارة والخطوات العظيمة للبشرية .
3. لماذا تُصَدَّرْ وسائل الفارس النبيل الساعي لخير الانسانية بشكل عاجز، رمح وخوذة ودرع بالية قد عفا عليها الزمن ، وحصان عجوز هزيل .
والحقيقة ان نسبة تأثير الادوات المادية في تحقيق الاهداف الانسانية ، قليلة ، فالتجربة الانسانية لو قدرنا عمرها بالالآف السنين تمتاز بالتكيف مع الضرف والنجاح بأبسط الادوات الممكنة وابسط شاهد الحضارات العملاقة القديمة التي نشأت بأدوات بسيطة
ولو قدمنا رؤية القران للمفهوم العددي ، قال تعالى:
((إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ )) (الانفال من الآية 65)
فهنا نجد في المنظور والايديولوجية الاسلامية رؤية اعمق لمفهوم التغيير تعتمد على الانسان ومقدار تعلقه بالهدف السامي والنسبة الطردية في تحقيق النجاح مع عدم اغفال الظرف العددي وليس الجانب المادي البحت ، فبالتالي حتى لو كانت الجيوش تمتلك احدث الاسلحة ، ولكن بدون بعد ايديولوجي واعتقاد عميق ، هذا يؤدي بها الى الفشل والهزيمة ، وامامنا الاتحاد السوفيتي اكبر ترسانة في العالم تفككت لأسباب تتعلق بالانكسار النفسي من الداخل ، وليس بسبب نقصان العدة او العدد .
4.
اـ لماذا يُصَّدَّرْ الفارس النبيل على انه في حالة من الصراع بين المثل والآلة بحيث يرى طواحين الهواء بانها شيطان ينبغي تحطيمها ، وهذا تجسيد لصراع بين المادة والمعنى ، والحقيقة لا يوجد هكذا صراع اطلاقا في ساحة المصلحين ، باعتبار ان اغلب اصحاب الرسالات الروحية ، كموسى وعيسى(عليهما السلام) ، والرسول الاكرم(محمد صلى الله عليه وآله وسلم)، رسموا تعاملا انسانيا عمليا مع الالة او الصناعة ، سواءً باستخدامها للدفاع عن النفس ، او حين استخدامها لتامين الاحتياجات الانسانية ، فلم نسمع او نقرا بان احد منهم رفض ناعور الماء او سراج النور وسرج الحصان ومحراث الزرع وماكنة حياكة نسيج القماش ...، بل كانوا منفتحين تماما على كل فكرة من شانها ، ان خدمة البشرية ، ولكن ومع هذا التطور الهائل في التكنلوجيا اليوم ، لا يمكن القول باننا اصبحنا لا نحتاج صفات الانسان النبيلة كالكرم والايثار والشجاعة والحلم ...، لان الآلة لا تغنينا عن هذا الصفات المحمودة هذا من جهة ومن جهة اخرى لا يوجد أي تعارض بينهما اطلاقا.
ب ـ لماذا يرى الفارس النبيل قطيع الاغنام ، بانها جيش العدو الذي ينبغي الوقوف بوجه وصده ؟
هل ان اصحاب المشاريع الاصلاحية الانسانية يهجمون على المخلوقات الوديعة النافعة في مسيرة اصلاحهم!
نعم الصراع بين الخير والشر على طول خط التاريخ الانساني ، يسقط في ثناياه بعض الابرياء ولكن لا يمكن وبأي حال من الاحوال تحميل مسؤوليته ، على عاتق رواد البشرية المصلحين ، والفكرة الاصلاحية انما هي لإحياء المجتمع الانساني ، فكيف تكون سببا في هلاكه ، وهذا ما تصرح به الادبيات العالمية عن الثورة الفرنسية بالرغم من دمويتها.
5. لماذا يتم تسفيه التغيير الاصلاحي بالمجتمع للوصول الى اليوم الذي يسود في العدل والمحبة والسلام جميع بقاع العالم واعتباره من اليوتوبيا البعيدة كل البعد عن التطبيق واقعيا ، مع ان امكانية وامل وجود هذا اليوم يقر به العديد من علماء البشرية ، قال ألبرت اينشتاين : (إن اليوم الذي يسود العالمَ كله فيه السلام والصفاء ويكونُ الناس متحابين متآخين ليس ببعيد).
المحور الثالث .استقراء مناظر لأطروحة الدون كيخوتي
نريد ان نقدم استقراء عملي للبديل المناسب او الموازي لإفرازات هذه الرواية من خلال تحرك السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس ).
ان هذه الرواية تحمل في طياتها عدد من المغالطات والاسس الفكرية الساذجة وتمثل بمجملها رسالة يراد لها ان تنتشر بين المجتمعات المقهورة والمستضعفة ، فارتأينا في سلسلة البحث ، ان نقدم رؤية تمثل عمق العقل الاسلامي المقاوم لكل اشكال الاستعباد ، من خلال ملاحظة تحرك سماحة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس )، سنذكر منه بعض الجوانب العملية والتي منها ما يلي:
1.قام السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس )، بدراسة جانب مهم من الارث المعرفي البشري وخصوصا المتعلق بسيرة ومنهج الفرسان كالنبي محمد ، والامير علي(صلوات الله عليهما)...، وعلى مدى عدة سنوات ، ضمن الجامعة الدينية في النجف الاشرف ، وهذه الدراسة حولها الى سلوك عملي ومعرفي وعاش تطبيقاتها ضمن تحركه المبارك ..
اذن هو رجل معبأ بفكرة الفارس المصلح ، وعندما وجد المجتمع الذي يعيش به مليء بالانتهاكات الانسانية نتيجة تسلط الظالمين عليه ، استخدم آليه ، وحدد هدف (هذا استقراء اجمالي لاحد جوانب تحركه)، فخرج لمواجهة الظلم الطاغوتي ، من خلال عملية الرفض السلمي ، وفق منهج اسلامي فهم مفرداته بشكل صحيح وحدد طريقة والية استخدام هذه المفردات بشكل صحيح وفي الوقت المناسب ، فاستقطب طبقة واسعة من المجتمع العراقي وخصوصا المحرومة والتي وقع عليها ظلم النظام الطاغوتي الصدامي بشكل كبير ، مشكلا بذلك قاعدة شعبية عقائدية ، لتكون بنية مجتمع يشعر بأهمية تحرره ورقيه وتكامله ، ودفع الظلم عن الانسان والارض والعرض...
اذن هو قد جسد رؤية اسلامية عميقة للمقاربة بين الواقعية والمثالية ، ومفهوما حداثويا للفروسية الاسلامية ، بالرغم من بساطة امكانياته وتظافر الظروف المعقدة والصعبة بوجه تحركه.
ومازلنا الى اليوم نجني من ثمار تحركه المبارك فمواجهة الاحتلال الامريكي ومقاومته وطرده كان من ثمار تحركه المبارك .
اذن لدينا ما يقارب السبع سنوات ، حُدِّدَ فيها هدف من قبل سماحته ، وآلية للتطبيق ، وضمن تخطيط محدد بالاعتماد على معرفة اكتسبها من فهمه للشخصية الاسلامية ، فكان مشروعا ناجحا ، وحقق جانبا كبيرا من اهدافه المحددة ، من خلال ذلك يمكن ان نقرأ بعدا مناظرا في الايديولوجية الاسلامية ، تقابل مغالطات ثيربانتس ضمن رؤيته الفلسفية التي سجلها في روايته الدون كيخوتي
2. من الممكن ان نقرأ بعدا فلسفيا من قبل سماحة السيد الشهيد محمد الصدر(قدس)، للمجتمع الانساني ، وهذا البعد الفلسفي يتمثل بما يلي:
ان ما يحتاجه الانسان لكي يتحرر من استعباد الدول والسياسات الفاسدة الظالمة ، يمكن تحقيقه من خلال تحديد اهداف تدريجية ، مع الالية المناسبة والتخطيط المناسب ، وضمن معرفة انسانية تقدمها الاطروحة الاسلامية ، وهذا ما يجعل الانسانية تخطو بسرعة لتحقيق هدفها المنشود في بناء مجتمع عادل يسود فيه الخير والعدل والسلام مهما كانت الظروف معقدة او صعبة ، بل وحتى لو اتفق سياسيو العالم الفاسدين بأجمعهم على الوقوف بوجه الانسانية ، مع ذلك يمكن للإنسانية مواجهتهم والانتصار عليهم
3. قدم السيد الشهيد، رؤية ايجابية للجهد الانساني ، أي ان الجهد الانساني الذي يستهدف المثل العليا لن يذهب سدى ، ولكن يحتاج الى الوقت الكافي لتحقيق اهدافه
4.ليس لكل فرد الامكانية في ممارسة دور القائد ، لان القيادة تحتاج الى مواصفات خاصة ، هي ليست اعجازية ، ولكنها فريدة وجوهرية ، وتمثل عاملا رئيسيا في تحقيق الهدف ، لأن الاهداف الانسانية وظروف الحياة تمثل حالة ديناميكية ، تستلزم قرارا يناسب الاوقات المختلفة وحسب تغيرات الظروف فيها
5.من المهم الالتفات الى ان الرؤية الفلسفية التي قدمها ثيربانتس في رواية الدون كيخوتي ، او المنظرين لها في وقتنا المعاصر ، هي ثقافة تُقرأ من قبل الطبقات السياسية واصحاب المشاريع الضخمة في العالم ، تماما كما قرأناها نحن ، أي انهم يرونها مجرد مغالطات ووسيلة لتخدير الشعوب ، او هي تعبير نموذجي للغة العاجزين والمتقاعسين ، في حين ان المنهجية التي يقومون بها حقيقة ، هي معاكسة تماما لهذه الرؤية واطارها الفلسفي ، والا كيف بنيت المشاريع العالمية الضخمة مع انها بدأت بأفكار بسيطة ، وادوات بسيطة ، ثم تشكلت هذا التشكل الذي نراه اليوم.
خلاصة المبحث:
هذه الرواية تمثل ارهاصات تأثر العقل الاجتماعي الغربي ، بعد المعارك الطاحنة التي خاضها الافراد البسطاء من المجتمع الغربي تحت لواء الحروب الصليبية ، وطرد المسلمين من الاندلس ، والتحرك بالأساطيل الاسبانية نحو العالم الجديد في الامريكيتين والصراع مع الهنود ، مما نتج عنه انكسار عبرت عنه هذه الرواية بشكل عالي ، حيث اصطدام الواقعية الظرفية التي عاشتها في ذلك الوقت الفروسية الغربية مع المثالية والوازع الانساني في وجدان الانسان ، باعتبار ان الموت في سبيل القيم النبيلة شيء انساني
قمنا من خلال هذا الاستقراء في الرواية ، اعطاء منظور حديث ، يتناول هذا النتاج الانساني الادبي ، اعتمادا على الظروف الواقعية المعاشة ، والتجارب البشرية التاريخية المسجلة ، لأنه اصبح ينعكس في رؤيا وتصرفات الكثير من ابناء المجتمعات الانسانية ، والفصل بين الواقعية والمثالية يمكن ان نقربه بالفصل بين الهدف والعمل من اجل تحقيقه
طبعا يمكن ان نستثني من ذلك اهدافا غير عقلائية ، وعملا لا يتناسب مع قيمة الهدف ، وقد اشرنا الى اهمية وجود القائد الفريد في خصائصه الذي يمتاز بالديناميكية في قراراته ، والقابلية في التأثير على سلوك الأفراد وتنسيق جهودهم لتحقيق أهداف معينة ، والذي يكون هو العامل القوي في ايصال جهود المجتمع الانساني المقهور الى النجاح في تحقيق اهدافه.
واخيرا يختم البحث بكلمة للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس)، حيث قال:
ان هداية المجتمع والدفاع عن الطبقات المحرومة والمستضعفة يستحق الفداء بأعظم الفداء واعظم انواع التضحية بالنحو الذي قدمه الحسين عليه السلام في عرصة كربلاء .
المصادر:
1.Fernández de Avellaneda – author of a spurious sequel to Don
Quixote, which in turn is referenced in the actual sequel
2. دون كيشوت، دراسة نقدية تحليلية، تأليف الدكتور جوزيف الياس
3.خطبة الجمعة (44)، للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق