في الواقع لازال الكثير منا بعيد الفهم عن حقيقة النبي محمد وفكره وسلوكه ومنهجه(صلى الله عليه وآله وسلم) ...، ولا اكاد ابالغ ان قلت ان الكثير منا لم يغادر دائرة الفهم السطحي القشري لهذه الحقيقة، والدليل على ذلك هو:
كثرة ما وقعنا فيه من مشاكل وهفوات وتعثر اثناء المسير باتجاه الرقي الانساني ، فان دل هذا على شيء فإنما يدل على سطحية فهمنا القشري لحقيقة محمد ومنهجه وسلوكه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه :
ان كنا لم نفهم حقيقة محمد الفهم الصحيح ، فهل يا ترى نتمكن من اتخاذه قدوة ونتأسى به؟
هيهات ، فكيف يمكن للفرد ان يتأسى بقدوة جاهل بها اصلا؟
ثم ان الامر تعدى ذلك ، حيث اننا بينا للبشرية محمد الذي لم نفهمه الفهم الصحيح ، وانما توهمنا باننا فهمناه من خلال تفكيرنا السطحي القشري وهذا ما انتج مظلوميتين :
الاولى.
للبشرية ، وذلك لان فهمنا السطحي القشري الخاطئ قد ساعد في حجب الكثير من حقيقة محمد عن الانسانية.
الثاني.
لمحمد نفسه فقد ظلمناه بفهمنا السطحي القشري المغلوط ، وهذا بحد ذاته ظلم لإنسان نبيل ومصلح كريم ، حينها سنكون مشاركين بالحاق الاذى لهذا النبي الذي ما اوذي نبي مثل ما اوذي(صلى الله عليه وآله وسلم)
اذن يجب ان نعيد التفكير الجدي بمحمد عسى ان نقترب من فهمه ، الفهم الصحيح لكي نتمكن من الاقتراب من معرفته ، عسى ان نتأسى به ونقتدي.
فان قيل ولكن حقيقة محمد لا يعرفها الا الله وعلي؟
الجواب:
نعم ذلك مقام وتلك مرتبة من المعرفة الحقيقية الواقعية التي هي فوق ادراكنا بمراتب والتي لا يمكن لنا حتى ان نتصورها فضلا عن ادراكها ، ولكن هنالك مراتب من المعرفة المتعلقة بحقيقة محمد يمكن لنا الوصول اليها ، والا لما جاء التكليف والتوجيه لنا بان نتأسى به ، لان التكليف دون الوسع والطاقة يقينا ، والتوجيه لابد ان يتلاءم مع الاستطاعة اكيدا، لكي يكون الفرد قادرا على الاداء.
عليه كيف يمكن لنا ان نتقدم خطوه في فهم حقيقة محمد ؟
الجواب:
يمكن لنا ان نتقدم خطوة في فهم حقيقة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، اذا حاولنا ان نجتهد في ذلك وننظر بقواعد وقوالب متلائمة مع مرحلة التكامل الانساني للبشرية ، وقبل الدخول في المطلب لنستمع الى هذه الرواية التي نقلها الشيخ الكليني في الكافي ج ٦ - الصفحة ٢٧١ ، بسنده حيث قال:
سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: مرت امرأة بذية برسول الله صلى الله عليه وآله وهو يأكل وهو جالس على الحضيض (قرار الأرض وأسفل الجبل) فقالت: يا محمد إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: إني عبد وأي عبد أعبد مني، قالت: فناولني لقمة من طعامك فناولها فقالت لا والله إلا الذي في فيك فأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله اللقمة من فيه فناولها فأكلتها قال أبو عبد الله عليه السلام: فما أصابها بذاء حتى فارقت الدنيا(انتهى).
وللتعرف على معنى من معاني هذه الرواية ، لنعود الى الجذر الفلسفي الذي اشار اليه الاستاذ الفاضل علي الزيدي في احدى محاضراته الستة لمحرم الحرام 1440 هجـ ، وهو:
ان الموت علة للحياة ، او العدم علة للوجود
فيمكن ان نستشف منه : ان العدم علة للحياة
ففي المقال السابق (محمد هو الحياة التي يمكن لكل انسان ان يسعى اليها) ، ذكرت انه:
(عاش الانسان النبيل محمد بكل روحه وقلبه ونفسه وشعوره ووجدانه ، بانه لا شيء امام الله اطلاقا ، وان كل شيء لله وحده فقط ، أي انه لم تكن لديه أي علائق تحول بينه وبين الله)
والان يمكن التقدم خطوة اخرى والقول :
ان الانسان النبيل محمد عاش بروحه وقلبه ونفسه وشعوره ووجدانه ، بانه لا شيء امام باقي المخلوقات ومنها الانسان ، أي انه كان يشعر بعدميته في قبال اي انسان اخر، وكلما تقدم الرسول باتجاه الرقي الانساني مرتبه بقي هذا الشعور لصيقا به ولم يفارقه ابدا ، حتى حينما وصل الى مرتبة الفرد الاكمل والمثال الانساني الاعلى.
اذن من يريد ان يقتدي بمحمد يجب ان يرى محمد بهذا المنظار ، والذي يريد ان يتأسى بمحمد ، عليه ان يشعر بعدميته امام المخلوقات بشكل عام والانسان بشكل خاص، لكي يتمكن من الرقي والتكامل الانساني ، كطالب العلم ، فالتلميذ حينما يدخل المدرسة اول مرة يجب ان يكون مهيئ لاستقبال العلم ، أي تكون ساحته مهيئة لاستقبال العلم ، وبمعنى اخر فارغة لاستقبال العلم ، وهكذا خلال طيلة رحلته المدرسية ، يسمى تلميذ ، او طالب ، لأنه كلما انتقل الى مرحلة اعلى ، عليه ان يواجهها وقد افرغ ساحته لاستقبال العلم فيها ، اما لو كان الفرد الجالس امام المعلم يشعر بانه عالم ، حينها سوف لن يتعلم بالتأكيد؟
ولتقريب المطلب اكثر يتم ذكر هذه الحادثة التي ذكرها السيد حسين دستغيب في كتابه القلب السليم ج2 ص92:
روي أن الله -تبارك وتعالى- أوحى لموسى (؏):
عـندما تأتي للمناجاة هذه المرة إجلب معك من تعتقد أنك أفـضل منه وأرقى.
فطفق موسى يبحث هنا وهناك، وينظر إلى هذا وذاك ويتصفح وجوه الناس ويفكر مع نفسه لكنه لم يجرؤ أن يعتبر نفسه أفضل من أي واحد منهم أو أرقى، ولذلك قرر الالتفات إلى الحيوانات مضطراً وطفق يبحث بينها على بُغيته، فلم يعثر على ضالته المنشودة، وكاد أن ييأس من ذلك، إلا أنه وقع نظره على كلب أجرب.
فقال مع نفسه:
( لولا أخذت معي هذا الكلب ).
فجاء بحبل ووضعه في رقبة الكلب، وفي الموعد المحدد للمناجاة انطلق بالكلب الأجرب متجهاً نحو جبل الطور، وبعد مسافة قصيرة ألقى الحبل من يده بعد أن ندم من جلبه الكلب وفك الحبل عن رقبته وخلّى سبيله.
وعندما وصل إلى محل المناجاة أوحى إليه الله تبارك وتعالى:
هل جلبت يا موسى ما كنا أمرناك بجلبه في المرة السابقة.
أجاب موسى:
إلـهي انني لم أجد ما طلبته مني.
فقال الله (جل جلاله):
وعـزتي وجلالي، لو كنت أتيت به لمحوت اسمك من ديوان الأنبياء(انتهى).
اذن ومن هذه الحادثة يمكن لنا فهم صورة من معاني المطلب ، وهو:
ان الانسان ولكي يكون انسانا يجب ان لا يشعر بأهميته في داخل نفسه قبال مخلوقات الله ومنها الانسان فيكون حينئذ صفر امام الانسانية التي حوله، حينها سوف يتخلص من السلبيات ويتمكن من الرقي نحو الحياة الاكمل ، وسوف تتركز به الخصائص الانسانية.
ومن هذه الفهم يمكن لنا الوقوف على صورة من صور معاني قوله تعالى:
((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47))
أي انه تم تصفير قلوبهم من الغل ، بعد نزعه منها ، ولذا اصبحوا :
((لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48))
لأنه لو بقي الغل في قلوبهم لما استطاعوا التلذذ بالحياة في الجنان ولمسهم النصب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق