الانسان هو اكرم مخلوقات الله ، الذي خُلِقَ من أجل غاية نبيلة يسعى للوصول اليها ، ولمحبة الله له ، اكرمه بقدوة يقتدي بها واسوة حسنة يتأسى بها ، وهذه القدوة هي ذلك الانسان النبيل والمصلح الكريم الذي انعدمت عنده كل العلائق التي تحول بينه وبين حبيبه ، فكان العدم عنده علة للحياة الحقيقية ، الا وهو المحمود المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فما احوجنا للتأسي به واقتفاء اثره عسى ان نصل الى الحياة الحقيقية ، وهذا من دواعي هذا المبحث المتكون من محورين :
المحور الاول / عدمية رسول الله علة لحياته العظيمة.
اشار الاستاذ الفاضل علي الزيدي ، في احد محاضراته الستة لموسم محرم الحرام 1440هـ ، الى هذا الجذر الفلسفي المهم وهو:
ان العدم علة للحياة
وهنا سنحاول ان نستقرأ حياة الرسول الاكرم من خلال مدخل عدميته فلقد عاش الانسان النبيل محمد بكل روحه وقلبه ونفسه وشعوره ووجدانه ، بانه لا شيء امام الله اطلاقا ، وان كل شيء لله وحده فقط ، أي انه لم تكن لديه أي علائق تحول بينه وبين الله ، فكان لا يرى شيئا سوى الله ، فوهبه الله كل شيء ، ولذا كانت حياته عظيمة وبها انقذ امم واحياها ، وكون خير امة اخرجت للناس.
فكيف انقذ المجتمع ، وكون خير امة اخرجت للناس ؟
اولا. حالة المجتمع المعاصر للرسول الاكرم.
لقد كان المجتمع المعاصر للرسول كثير الادران مليء بالشوائب ، فلقد كان مجتمعا يعيش في بيئة صحراوية انعكست قسوتها على حالة المعيشة فيها ، فالقبائل يغير بعضها على بعض لتامين لقمة العيش عن طريق السلب والنهب وما يصاحبه من اراقة الدماء وازهاق النفوس وانتهاك الاعراض وسبي الذراري ، فانتشرت الكثير من السلبيات فيهم كوجود:
دور اللهو والمجون ، وكثرة ابناء الفراش واستعمال الربا في التعاملات ، وانتشار السحرة والمشعوذين بينهم ، وتفشي الامية عندهم ، وقلة الوعي في تفكيرهم ، واضمحلال شعورهم بالمسؤولية...
ثانيا. كيفية انقاذ المجتمع .
توجه النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نحو هذا المجتمع لإنقاذه ، بكل عطف ورحمة باذلا كل طاقاته وبأقصى جهده ، بالرغم من وجود عدة معرقلات والتي منها:
ا. تدني فكر ووعي المجتمع وخشونة سلوكه وطباعه
ب. كثرة المناوئين والخصوم والاعداء الموجودين والذين منهم:
1.عتاة قريش الجبابرة المنتفعين كليا من مآسي الوضع المعاش والبانين كل مصالحهم ونفوذهم وحياتهم عليه ، والمحيطين بالرسول احاطة الحلقة بمعصم اليد.
2.اشرار المشركين في جزيرة العرب المتغطرسين الطباع والسلوك والذين سلوتهم في القتل وسفك الدماء ، ومعيشتهم على السلب والنهب ، وافتخارهم بكثرة الزنا وشرب الخمر ...
3.مردة اليهود الذين شاقوا الله ورسله وتلطخت ايديهم بسفك دماء انبياء الله واولياءه ، والذين اعتاشوا على الدسائس والمكائد ، والمتربصين لأي نفس او حركة تشير ولو ظنا لخروج اي نبي ، لينقضوا عليه مسرعين من اجل القضاء عليه ، سيما وان علماؤهم يعلمون بانه لم يبقى من الانبياء والمرسلين الا خاتمهم وسيدهم ، وعندهم اوصافه ومحل سكناه ودار هجرته...
4.طواغيت الدول المجاورة وعملائهم بالمنطقة ، الرافضين حتى سماع دعوة النبي والاصغاء الى مضمون رسالته.
ومع ذلك وغيره كثير ، كان النبي يؤمن بضرورة واهمية الانقاذ والاصلاح ، وانها مهمة نبيلة ، تستحق الصبر والبذل والتضحية ، لأنها رسالة كونية عظيمة تحتاج الى تبليغها وترسيخ اسسها وبناء قواعدها ، فهي المتكفلة بضمان كرامة الانسان ونيل حريته وسعادته ورقيه وتكامله وفق ما يريده الله ويرضاه.
ولذا سعى الرسول بالحكمة والموعظة الحسنة وبكل حنان وعاطفة ، من اجل اقناع المجتمع وافهامه لكي يشعر بأهمية التخلص من العلائق المتمثلة بالأدران والشوائب الناجمة عن ارتكاب الموبقات والمحرمات لكي يعدمها شيئا فشيئا ، مبينا لهم بان ضرر هذه الامور خطير فهي سبب النصب والضعف والتمزق والحزن فيجب التخلي عنها ، لأنها جعلت من الناس تعيش في صراعات وهمية
اذن يجب الرجوع الى الفطرة السليمة لتكون العقول والقلوب سليمة ، والنفوس نقية ، وخالية من علائق الشر والرذيلة والفساد بعد اعدامها شيئا فشيئا .
وهكذا اوقفهم الرسول على هذه الحقيقة البالغة الاهمية وهي:
ان الفرد كلما استشعر انه لا شيء ، لأنه اصلا لم يكن شيئا ، حينها سيتمكن من العودة الى فطرته السليمة ، وسيشعر بقيمة النعم الالهية والفضل الالهي والاحسان الالهي ، اما حينما يستشعر الانسان ان له وجود قبال وجود الله وانه شيء وعلى شيء ، فحينها لن يشعر بحقيقة النعم الالهية واهمية النعم الالهية ، ولن يتمكن من النهوض والتعلم والتفكير ، لذا ترى شهواته ونزواته هي التي تقوده باتجاه السرقة والزنا والقتل ...، فهو لا يستشعر حقيقة انه لا شيء قبال الله ، قال تعالى(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ)
اذن محورية حركة العدمية، اصبحت علة للحياة الجديدة وبؤرة التأسيس من اجل التغير الايجابي نحو التكامل ، فلا يمكن زرع مغروسات الفضيلة وازهار المحبة واشجار الخير والنماء ، في ارض مليئة بمغروسات الرذيلة واشجار الفساد والرذيلة ، عليه لابد من تطهير الارض وتصفيرها ، وذلك بإعدام جميع تلك الاشجار الفاسدة والمغروسات الضارة وقلعها من جذورها ، ليحل محلها نباتات ومغروسات الخير والعطاء ، أي يجب التخلص والتخلي من أي سلوك منحرف وفكر متطرف ، لكي يحل محله السلوك الصحيح والفكر الراقي ، وهذا ما قام به الرسول الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
المحور الثاني: إنما أنا بشر مثلكم.
وهذه قاعدة بالغة الاهمية تبين لنا وبشكل جلي عدة معاني والتي منها:
1.انه يمكن لكل انسان ان يقتدي برسول الله ويتأسى به صلى الله عليه وآله وسلم
2.ان الرسول الاكرم مع اهمية رسالته وعظيم مسؤوليته وثقل امانتها ، يعمل بالأدوات الممكنة والاسلوب المتيسر المتناسب مع افهام الجميع بشكل عام ، والافراد ، فردا فردا بشكل خاص ، بلا كلل ولا ملل ، مهما كان ذلك الفرد متدني الفكر ومحدود الفهم وخشن الطباع ، لذا فانه (صلى الله عليه وآله وسلم)، استطاع التأثير بكل فرد عاصره او لم يعاصره مهما كان ذلك الفرد وحشيا ومنحرفا.
3.انه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان يعيش معيشتهم البسيطة فيأكل الطعام البسيط ويلبس الملابس البسيطة الخشنة ويسكن المسكن البسيط ويركب الحمار العاري ويجلس مع العبيد ويجيب دعوة المملوك الى قرص الشعير ، موجود بينهم غير معزول عنهم يبكي لبكائهم ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم غير متكبر عليهم ، بل انه معهم وكانه احدهم ، فاحبوه من كل قلوبهم وكانوا يسمعونه بكل جوارحهم ، لذا تسابقوا في شرح تعاليمه ونشر فضائله لانهم رأوه الروح التي احيتهم والبلسم الذي داوى جراحهم والعطر الزكي الذي ملء انفسهم وانشرحت له قلوبهم.
نعم لقد بالغ الخصوم والاعداء في محاربته وابداء الاذى اتجاهه واسرته ، ولكنه كان يبادلهم بالعطف والحنان...
حاصروه ثلاث سنوات في شعب ابي طالب مع اهل بيته حتى راح في ظلم هذا الحصار عمه سيد البطحاء ابو طالب ، وزوجته الحنون السيدة خديجة الكبرى ، ولم يتغير في عطفه وحنانه اتجاههم قيد شعرة ، بل انه كان يحزن ويبكي بشدة من اجلهم فخاطبه حبيبه ، بقوله(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) ، وحينما اصروا على ابادته واستئصاله ومن انقذهم ، امر اتباعه ومحبيه بالهجرة الى ارض الله الواسعة ، وبقي هو حتى اطمئن على هجرتهم جميعا ثم هاجر لتكون هجرته مؤشر للانتقال الى الحياة المدنية التي تليق بكرامة الانسان علما وادبا ، ولكي يكون الانسان انسانا كما خلقه الله واكرمه، وفعلا تأسست نواة دولة الانسان وقاعدة امة الانسان وفق اعدل واكمل نظام عرفه الانسان .
خلاصة المبحث:
1.يجب على الفرد ان يستشعر بان لاوجود له قبال الله تعالى وان الوجود الحقيقي لله وحده فقط ، وحينما يستشعر بعدميته سوف يستشعر قيمة نعم الله ، وقيمة رحمة الله ، وقيمة فضل الله ، وهذا الشعور هو الذي يجعل منه انسانا .
2. لابد للإنسان من قدوة يتأسى به ، وخير قدوة وافضل قدوة واعلى قدوة ، هو ذلك الفرد الاكمل الذي تخلى عن جميع العلائق التي تحول بينه وبين خالقه فكان لا يرى لنفسه أي شيء قبال الله فمنحه الله كل شيء ، فاصبح هو الحياة الحقيقية التي ينبغي للإنسان ان يسعى اليها، الا وهو النبي المحمود احمد(صلى الله عليه وآله وسلم)
3.يجب عدم الالتفات الى المعرقلات والمبررات واتخاذها حجة وذريعة لأنها سوف تحول بين الفرد وبين ان يكون انسانا كما خلقه الله واراده ، فمهما كانت المعرقلات شديدة فإنها لن تكون بشدة المعرقات التي واجهها الرسول الاكرم ، ومع ذلك فإنها لم ولن تحول دون تنفيذ مطالبه وتحقيق اهدافه.
4.ان الاصلاح الداخلي مقدم على الاصلاح الخارجي فيجب على الفرد ان يبدأ بنفسه اولا ليصلحها ثم اسرته وهكذا الى ان يصل الى مرحلة اصلاح المجتمع ، ولا يمكن للفرد ان يكون مصلحا ، ان لم يكن صالحا اطلاقا.
5.يجب على الانسان ان يواصل مسيره ويسعى في طريق كماله وان كانت الادوات المتوفرة بسيطة والوسائل المتاحة محدودة ، فالإيمان بالهدف النبيل والهمة العالية والجد والاجتهاد والصبر والتضحية كفيلة بتذليل الصعاب وتحقيق المطالب.
6. الذين يشعرون بوجود اهمية لأنفسهم وانهم شيء في قبال الله ، أي انهم لم يعدموا العلائق التي تحول بينهم وبين الله ، ولم يصفروا ساحة انفسهم وقلوبهم من الادران والشوائب وخصوصا الخطير منها فانهم لم يسايروا رسول الله ولم يتخذوه قدوة واسوة حقيقة ، وان بدوا ظاهرا انهم يسايروه ، فهؤلاء وفي لحظة الانتقال المفصلية كلحظة شهادة رسول الله لن يتمكنوا من الانتقال الى حياة ضمن مرحلة الولاية.
7.ان جهود النبي الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، في انقاذ البشرية ومدها بالحياة الحقيقية لن تذهب سدا اطلاقا لأنها بذلت خالصة لوجه الله تعالى ، عليه لابد من تحقق ذلك اليوم الذي تصل به البشرية الى الغاية التي خلقت من اجلها وتحيا حياة الانسانية وكما اراده الله تعالى لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق