عهد امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه الاسلام لمالك الاشتر حين ولاه مصر ،سنة 38 للهجرة ـ 658 للميلاد
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم.
انه عهد عظيم افاض به مولانا ومقتدانا امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ، لسيدنا مالك بن الحارث بن الاشتر النخعي حين ولاه مصر ، اتشرف بعرضه على اخوتي مع بعض مصادره، ومن الله التوفيق
قال الشيخ الطوسي في الفهرست ص 38: أخبرنا بالعهد(1) ابن أبي جيد عن محمد بن الحسن عن الحميري عن هارون بن مسلم، والحسن بن ظريف جميعا عن الحسين بن علوان الكلبي عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال :ـ
قال الشيخ الطوسي في الفهرست ص 38: أخبرنا بالعهد(1) ابن أبي جيد عن محمد بن الحسن عن الحميري عن هارون بن مسلم، والحسن بن ظريف جميعا عن الحسين بن علوان الكلبي عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال :ـ
بسم
الله الرحمن الرحيم
هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن
الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر : جباية خراجها ومجاهدة عدوّها واستصلاح
أهلها وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتّباع ما أمر الله به في كتابه
من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها
وأن ينصر الله بيده وقلبه ولسانه فإنّه قد تكفّل بنصر من نصره إنّه قوي عزيز.
وأمره
أن يكسر من نفسه عند الشهوات فإنّ النفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور
رحيم. وأن يعتمد كتاب الله عند الشبهات فإنّ فيه تبيان كلّ شيء وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون.
وأن يتحرّى رضا الله ولا يتعرّض لسخطه ولا يصرّ على معصيته فإنّه لا ملجأ من الله إلاّ
إليه.
ثمّ
اعلم يا مالك أنّي وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وأنّ الناس ينظرون
من أُمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أُمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم
وإنّما يستدلّ على الصالحين بما يُجري الله لهم على ألسن عباده فليكن أحبّ الذخائر
إليك ذخيرة العمل الصالح بالقصد فيما تجمع وما ترعى به رعيّتك فاملك هواك وشُحّ بنفسك
عمّا لا يحلّ لك فإنّ الشحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحببت وكرهت.
وأشعر
قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بالإحسان إليهم ولا تكوننّ عليهم سبُعاً ضارياً
تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان إمّا أخ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل
وتَعرِض لهم العِلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي
تحبّ أن يعطيك الله من عفوه فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاّك
بما عرّفك من كتابه وبصّرك من سنن نبيّه (صلى الله عليه وآله).ا
عليك
بما كتبنا لك في عهدنا هذا لا تنصبنّ نفسك لحرب الله فإنّه لا يدَ لك بنقمته ولا غنى
بك عن عفوه ورحمته. فلا تندمنّ على عفو ولا تبجحنّ بعقوبة ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت
عنها مندوحة ولا تقولنّ : إنّي مؤمّر آمر فأُطاع فإنّ ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين
وتقرّب من الفتن فتعوّذ بالله من درك الشقاء.
وإذا
أعجبك ما أنت فيه من سلطانك فحدثت لك به أُبّهة أو مخيّلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك
وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فإنّ ذلك يُطامِن إليك من طماحك ويكفّ عنك
من غربك
ويفيء
إليك ما عزب من عقلك.
وإيّاك
ومساماته في عظمته أو التشبّه به في جبروته فإنّ الله يُذلّ كلّ جبّار ويُهين كلّ مختال
فخور.
أنصف
الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّتك ومن أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنّك إلاّ
تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجّته وكان لله
حرباً حتّى ينزع ويتوب.
وليس
شيء أدعى إلى تغيير نعمة من إقامة على ظلم فإنّ الله يسمع دعوة المظلومين وهو للظالمين
بمرصاد ومن يكن كذلك فهو رهين هلاك في الدنيا والآخرة.
وليكن
أحبّ الأُمور إليك أوسطها في الحقّ وأعمّها في العدل وأجمعها للرعية فإنّ سخط العامّة
يجحف برضى الخاصّة وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضى العامّة. وليس أحد من الرعيّة أثقل
على الوالي مؤونة في الرخاء وأقلّ له معونة في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف
وأقلّ شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع وأضعف صبراً عند ملمّات الأُمور ومن
الخاصّة وإنّما عمود الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء أهل العامّة من الأُمّة
فليكن لهم صَغوك واعمد لأعمّ الأُمور منفعة وخيرها عاقبة ولا قوّة إلاّ بالله.
وليكن
أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لعيوب الناس فإنّ في الناس عيوباً الوالي أحقّ
مَن سترها فلا تكشفنّ ما غاب عنك واستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحبّ ستره
من رعيّتك .
وأطلق
عن الناس عقد كلّ حقد واقطع عنك سبب كلّ وتر واقبل العذر وادرأ الحدود بالشبهات.
وتغاب
عن كلّ ما لا يَضِحُ لك ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ وإن تشبّه بالناصحين.
لا تُدخلنّ
في مشورتك بخيلا يخذلك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعف عليك الأُمور ولا حريصاً
يزيّن لك الشره بالجور فإنّ البخل والجور والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله.
أيقن
أنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار وزيراً ومن شركهم في الآثام وقام بأُمورهم في عباد الله
فلا يكوننّ لك بطانة تُشركهم في أمانتك كما شركوا في سلطان غيرك فأردوهم وأوردهم مصارع
السوء.
ولا
يعجبنّك شاهد ما يحضرونك به فإنّهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة وعباب كلّ طمع ودغل
وأنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل أدبهم ونفاذهم ممّن قد تصفّح الأُمور فعرف مساويها
بما جرى عليه منها فأُولئك أخفّ عليك مؤونة
وأحسن لك معونة وأحنى عليك عطفاً وأقلّ لغيرك إلفاً لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثماً على إثمه ولم يكن مع غيرك له سيرة أجحفت
بالمسلمين والمعاهدين فاتّخذ أُولئك خاصّة لخلوتك وملائك.
ثمّ
ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحقّ وأحوطهم على الضعفاء بالإنصاف وأقلّهم لك مناظرة
فيما يكون منك مماكرة الله لأوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث وقع فإنّهم يقفونك على
الحقّ ويبصّرونك ما يعود عليك نفعه. والصق بأهل الورع والصدق وذوي العقول والأحساب
ثمّ رُضْهم على ألاّ يطروك ولا يبجّحوك بباطل لم تفعله فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزهو
وتدني من الغِرّة والإقرار بذلك يوجب المقت من الله .
لا يكوننّ
المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإنّ ذلك تزهيد لأهل الإحسان في الإحسان وتدريب لأهل
الإساءة على الإساءة فالزم كلاًّ منهم ما ألزم نفسه أدباً منك ينفعك الله به وتنفع
به أعوانك.
ثمّ
اعلم أنّه ليس شيء بأدعى لحسن ظنّ وال برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم
وقلة استكراهه إيّاهم على ما ليس له قبلهم فليكن في ذلك أمر يجتمع لك به حسن ظنّك برعيّتك
فإنّ حسن الظنّ يقطع عنك نصباً طويلاً وإنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده
وأحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده فاعرف هذه المنزلة لك وعليك لتزدك بصيرة في
حسن الصنع واستكثار حسن البلاء عند العامّة مع ما يوجب الله بها لك في المعاد.
ولا
تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأُمّة واجتمعت بها الأُلفة وصلحت عليها الرعية.
ولا تحدثنّ سنّة تضرّ بشيء ممّا مضى من تلك السنن فيكون الأجر لمن سنّها والوزر عليك
بما نقضت منها.
وأكثر
مدارسة العلماء ومثافنة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أهل بلادك وإقامة ما استقام به
الناس من قبلك فإنّ ذلك يحقّ الحقّ ويدفع الباطل ويكتفى به دليلا ومثالا لأنّ السنن
الصالحة هي السبيل إلى طاعة الله.
ثمّ
اعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود
الله ومنها كتّاب العامّة والخاصّة ومنها قضاة العدل ومنها عمّال الإنصاف والرفق ومنها
أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومَسلَمة الناس ومنها التجّار وأهل الصناعات ومنها
الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلاًّ قد سمّى الله سهمه ووضع على حدّ فريضته
في كتابه أو سنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) وعهداً عندنا محفوظاً.
فالجنود
ـ بإذن الله ـ حصون الرعيّة وزين الولاة وعزّ الدين وسبيل الأمن والخفض وليس تقوم الرعيّة
إلاّ بهم . ثمّ لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يصلون به إلى
جهاد عدوّهم ويعتمدون عليه ويكون من وراء حاجاتهم.
ثمّ
لا بقاء لهذين الصنفين إلاّ بالصنف الثالث من القضاة والعمّال والكتّاب لما يحكمون
من الأُمور ويظهرون من الإنصاف ويجمعون من المنافع ويُؤمَنون عليه من خواصّ الأُمور
وعوامّها.
ولا
قوام لهم جميعاً إلاّ بالتجّار وذوي الصناعات فيما يجمعون من مرافقهم ويقيمون من أسواقهم
ويكفونهم من الترفّق بأيديهم ممّا لا يبلغه رفق غيرهم.
ثمّ
الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقّ رِفدهم وفي في الله لكلٍّ سعة ولكلٍّ
على الوالي حقّ بقدر يصلحه وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلاّ بالاهتمام
والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحقّ والصبر فيما خفّ عليه وثقل . فولّ من
جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأنقاهم جيباً وأفضلهم حلماً وأجمعهم علماً
وسياسة ممّن يبطئ عن الغضب ويسرع إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء ممّن
لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.
ثمّ
الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثمّ أهل النجدة والشجاعة
والسخاء والسماحة فإنّهم جِماع من الكرم وشُعَبٌ من العُرف يهدون إلى حسن الظنّ بالله
والإيمان بقَدره.
ثمّ
تفقّد أُمورهم بما يتفقّد الوالد من ولده ولا يتفاقمنّ في نفسك شيء قوّيتهم به . ولا
تحقّرنّ لطفاً تعاهدتهم به وإن قلّ فإنّ داعية لهم إلى بذل النصيحة وحسن الظّن بك
. فلا تدع تفقّد لطيف أُمورهم اتّكالا على جسيمها فإنّ لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون
به وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه.
وليكن
آثر رؤوس جنودك من واساهم في معونته وأفضل عليهم في بذله ممّن يسعهم ويسع من وراءهم
من الخُلوف من أهلهم حتّى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدو.
ثمّ
واتر إعلامهم ذات نفسك في إيثارهم والتكرمة لهم والإرصاد بالتوسعة . وحقّق ذلك بحسن
الفعال والأثر والعطف فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.
وإنّ
أفضل قرّة العيون للولاة استفاضة العدل في البلاد وظهور مودّة الرعيّة لأنّه لا تظهر
مودّتهم إلاّ بسلامة صدورهم ولا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحوطتهم على ولاة أُمورهم وقلّة
استثقال دولتهم وترك استبطاء انقطاع مدّتهم.
ثمّ
لا تَكِلنّ جنودك إلى مغنم وزّعته بينهم بل أحدِث لهم مع كلّ مغنم بدلا ممّا سواه ممّا
أفاء الله عليهم تستنصر بهم به ويكون داعية لهم إلى العودة لنصر الله ولدينه . واخصص
أهل النجدة في أملهم إلى منتهى غاية آمالك من النصيحة بالبذل وحسن الثناء عليهم ولطيف
التعهّد لهم رجلا رجلا وما أبلى في كلّ مشهد فإنّ كثرة الذكر منك لحسن فِعالهم تهزّ
الشجاع وتحرّض الناكل إن شاء الله.
ثمّ
لا تدع أن يكون لك عليهم عيون من أهل الأمانة والقول بالحقّ عند الناس فيثبتون بلاء
كلّ ذي بلاء منهم ليثق أُولئك بعلمك ببلائهم.
ثمّ
اعرف لكلّ امرئ منهم ما أبلى ولا تَضُمّنَّ بلاء امرئ إلى غيره ولا تُقصّرنّ به دون
غاية بلائه وكاف كلاًّ منهم بما كان منه واخصصه منك بهزّه. ولا يدعونّك شرف امرئ إلى
أن تعظّم من بلائه ما كان صغيراً ولا ضِعة امرئ على أن تصغّر من بلائه ما كان عظيماً
. ولا يفسدنّ أمرأ عندك علّة إن عرضت له ولا نبوة حديث له قد كان له فيها حسن بلاء
فإنّ العزّة لله يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتّقين.
وإن
استشهد أحد من جنودك وأهل النكاية في عدوّك فاخلفه في عياله بما يخلف به الوصي الشفيق
الموثق به حتّى لا يُرى عليهم أثر فقده فإنّ ذلك يعطف عليك قلوب شيعتك ويستشعرون به
طاعتك ويسلسون لركوب معاريض التلف الشديد في ولايتك.
وقد
كانت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) سنن في المشركين ومنّا بعده سنن قد جرت بها
سنن وأمثال في الظالمين ومن توجّه قِبلتنا وتسمّى بديننا وقد قال الله لقوم أحبّ إرشادهم
: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الاَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا).
وقال
: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الاَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا).
فالردّ
إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والردّ إلى الرسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المتفرّقة
ونحن أهل رسول الله الذين نستنبط المحكم من كتابه ونميّز المتشابه منه ونعرف الناسخ
ممّا نسخ الله ووضع إصره .
فسِر
في عدوّك بمثل ما شاهدت منّا في مثلهم من الأعداء وواتر إلينا الكتب بالأخبار بكلّ
حدث يأتك منّا أمر عامّ والله المستعان .
ثمّ
انظر في أمر الأحكام بين الناس بنيّة صالحة فإنّ الحكم في إنصاف المظلوم من الظالم
والأخذ للضعيف من القويّ وإقامة حدود الله على سنّتها ومنهاجها ممّا يصلح عباد الله
وبلاده . فاختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك « وأنفسهم للعلم والحلم والورع
والسخاء ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تُمحِكه الخصوم ولا يتمادى في إثبات الزلّة ولا
يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه
وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصوم وأصبرهم على تكشّف
الأُمور وأصرمهم عند اتّضاح الحكم ممّن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراق ولا يصغى
للتبليغ فولّ قضاءك من كان كذلك وهم قليل .
ثمّ
أكثر تعهّد قضائه وافتح له في البذل ما يزيح علّته ويستعين به وتقلّ معه حاجته إلى
الناس وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال
إيّاه عندك . وأحسن توقيره في صحبتك وقربه في مجلسك وأمضِ قضاءه وأنفِذ حكمه واشدد
عضده واجعل أعوانه خيار من ترضى من نظرائه من الفقهاء وأهل الورع والنصيحة لله ولعباد
الله ليناظرهم فيما شبه عليه ويلطف عليهم لعلم ما غاب عنه ويكونون شهداء على قضائه
بين الناس إن شاء الله .
ثمّ
حملة الأخبار لأطرافك قضاة تجتهد فيهم نفسه لا يختلفون ولا يتدابرون في حكم الله وسنّة
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنّ الاختلاف في الحكم إضاعة للعدل وغِرة في الدين
وسبب من الفرقة . وقد بيّن الله ما يأتون وما ينفقون وأمر بردّ ما لا يعلمون إلى من
استودعه الله علم كتابه واستحفظه الحكم فيه فإنّما اختلاف القضاة في دخول البغي بينهم
واكتفاء كل امرئ منهم برأيه دون من فرض الله ولايته ليس يصلح الدين ولا أهل الدين على
ذلك .
ولكن
على الحاكم أن يحكم بما عنده من الأثر والسنّة فإذا أعياه ذلك ردّ الحكم إلى أهله فإن
غاب أهله عنه ناظَر غيره من فقهاء المسلمين ليس له ترك ذلك إلى غيره وليس لقاضيين من
أهل الملّة أن يقيما على اختلاف في الحكم إنّما رفع ذلك إلى وليّ الأمر فيكم فيكون
هو الحاكم بما علّمه الله ثمّ يجتمعان على حكمه فيما وافقهما أو خالفهما . فانظر في
ذلك نظراً بليغاً فإنّ هذا الدين قد كان أسيراً بأيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى وتطلب
به الدنيا .
واكتب
إلى قضاة بلدانك فليرفعوا إليك كلّ حكم اختلفوا فيه على حقوقه ثمّ تصفّح تلك الأحكام
فما وافق كتاب الله وسنّة نبيّه والأثر من إمامك فأمضه واحملهم عليه وما اشتبه عليك
فاجمع له الفقهاء بحضرتك فناظرهم فيه ثمّ أمض ما يجتمع عليه أقاويل الفقهاء بحضرتك
من المسلمين فإنّ كلّ أمر اختلف فيه الرعية مردود إلى حكم الإمام وعلى الإمام الاستعانة
بالله والاجتهاد في إقامة الحدود وجبر الرعية على أمره ولا قوّة إلاّ بالله .
ثمّ
انظر إلى أُمور عمّالك واستعملهم اختباراً ولا تولّهم أُمورك محاباة أثرة فإنّ المحاباة
والأثرة جماع الجور والخيانة وإدخال الضرورة على الناس وليست تصلح الأُمور بالإدغال
فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعلم والسياسة وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من
أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام فإنّهم أكرم أخلاقاً وأصحّ أعراضاً وأقلّ في
المطامع إشرافاً وأبلغ في عواقب الأُمور نظراً من غيرهم فليكونوا أعوانك على ما تقلّدت
.
ثمّ
أسبغ عليهم في العمالات ووسّع عليهم في الأرزاق فإنّ في ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم
وغنى عن تناول ما تحت أيديهم وحجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك . ثمّ تفقّد
أعمالهم وابعث العيون عليهم من أهل الصدق والوفاء فإنّ تعهّدك في السرّ أُمورهم حدوة
لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية .
وتحفّظ
من الأعوان فإنّ أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً
فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ثمّ نصبته بمقام المذلّة فوسمته
بالخيانة وقلّدته عار التهمة .
وتفقّد
ما يصلح أهل الخراج فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلاّ
بهم لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله . فليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك
في استجلاب الخراج فإنّ الجلب لا يدرك إلاّ بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب
البلاد وأهلك العباد ولم يستقم له أمره إلاّ قليلا .
فأجمع
إليك أهل الخراج من كلّ بلدانك ومُرهم فليُعلموك حال بلادهم وما فيه صلاحهم ورخاء جبايتهم
ثمّ سَل عمّا يرفع إليك أهل العلم به من غيرهم فإن كانوا شكوا ثقلا أو علّة من انقطاع
شرب أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بهم العطش أو آفة خفّفت عنهم ما ترجو أن يصلح
الله به أمرهم وإن سألوا معه معونة على إصلاح ما يقدرون عليه بأموالهم فاكفهم مؤونته
فإنّ في عاقبة كفايتك إيّاهم صلاحاً فلا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به عنهم المؤونات فإنّه
ذخر يعودون به عليك لعمارة بلادك وتزيين ولايتك مع اقتنائك مودّتهم وحسن نيّاتهم واستفاضة
الخير وما يسهّل الله به من جلبهم فإنّ الخراج لا يستخرج بالكدّ والأتعاب مع أنّها
عقد تعتمد عليها إن حدث حدث كنت عليهم معتمداً لفضل قوّتهم بما ذخرت عنهم من الجَمام
والثقة منهم بما عوّدتهم من عدلك ورفقك ومعرفتهم بعذرك فيما حدث من الأمر الذي اتّكلت
به عليهم فاحتملوه بطيب أنفسهم فإنّ العمران محتمل ما حمّلته وإنّما يؤتى خراب الأرض
لإعواز أهلها وإنّما يعوز أهلها لإسراف الولاة وسوء ظنّهم بالبقاء وقلّة انتفاعهم بالعبر
.
فاعمل
فيما وليت عمل من يحبّ أن يدّخر حسن الثناء من الرعية والمثوبة من الله والرضا من الإمام
. ولا قوّة إلاّ بالله .
ثمّ
انظر في حال كتّابك « فاعرف حال كل امرئ منهم فيما يحتاج إليه منهم فاجعل لهم منازل
ورتباً فولّ على أُمورك خيرهم واخصص رسائلك التي تُدخل فيها مكيدتك وأسرارك بأجمعهم
لوجوه صالح الأدب ممّن يصلح للمناظرة في جلائل الأُمور من ذوي الرأي والنصيحة والذهن
أطواهم عنك لمكنون الأسرار كشحاً ممّن لا تُبطره الكرامة ولا تمحق به الدالّة فيجترئ
بها عليك في خلاء أو يلتمس إظهارها في ملاء ولا تقصر به الغفلة عن إيراد كتب الأطراف
عليك وإصدار جواباتك على الصواب عنك وفيما يأخذ ويعطي منك ولا يضعف عقداً اعتقده لك
ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأُمور فإنّ الجاهل بقدر
نفسه يكون بقدر غيره أجهل .
وولّ
ما دون ذلك من رسائلك وجماعات كتب خَرجك ودواوين جنودك قوماً تجتهد نفسك في اختيارهم
فإنّها رؤوس أمرك أجمعها لنفعك وأعمّها لنفع رعيّتك .
ثمّ
لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظنّ بهم فإنّ الرجال يعرفون فراسات
الولاة بتصنّعهم وخدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة ولكن اختبرهم بما ولّوا للصالحين
قبلك فاعمد لأحسنهم كان في العامّة أثراً وأعرفهم فيها بالنبل والأمانة فإنّ ذلك دليل
على نصيحتك لله ولمن ولّيت أمره . ثمّ مُرهم بحسن الولاية ولين الكلمة . واجعل لرأس
كلّ أمر من أُمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتّت عليه كثيرها .
ثمّ
تفقّد ما غاب عنك من حالاتهم وأُمور من يرد عليك رسله وذوي الحاجة وكيف ولايتهم وقبولهم
وليّهم وحجّتهم فإنّ التبرّم والعزّ والنخوة من كثير من الكتّاب إلاّ من عصم الله وليس
للناس بدّ من طلب حاجاتهم . ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه أُلزمته أو فضل
نُسب إليك مع ما لك عند الله في ذلك من حسن الثواب .
ثمّ
التجّار وذوي الصناعات فاستوص وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق
بيده فإنّهم موادّ للمنافع وجلاّبها في البلاد في برّك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم
اناس لمواضعها ولا يجترئون عليها « من بلاد أعدائك من أهل الصناعات التي أجرى الله
الرفق منها على أيديهم فاحفظ حرمتهم وآمن سبلهم وخذ لهم بحقوقهم فإنّهم سلم لا تُخاف
بائقته وصلح لا تُحذر غائلته « أحبّ الأُمور إليهم أجمعها للأمن وأجمعها للسلطان فتفقّد
أُمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك .
واعلم
مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في
البياعات وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة فامنع الاحتكار فإنّ رسول الله (صلى
الله عليه وآله) نهى عنه .
وليكن
البيع والشراء بيعاً سمحاً بموازين أعدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع
فمن قارف حُكرة بعد نهيك فنكّل وعاقب في غير إسراف فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)فعل
ذلك .
ثمّ
الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وذوي البؤس
والزمنى فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومعترّاً فاحفظ الله ما استحفظك من حقّه فيها واجعل
لهم قسماً من غلاّت صوافي الإسلام في كلّ بلد فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكلاًّ
قد استُرعيت حقّه فلا يشغلنّك عنهم نظر فإنّك لا تُعذر بتضييع الصغير لإحكامك الكثير
المهمّ فلا تُشخص همّك عنهم ولا تُصعّر خدّك لهم وتواضع لله يرفعك الله واخفض جناحك
للضعفاء واربهم إلى ذلك منك حاجة وتفقّد من أُمورهم ما لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه
العيون وتحقّره الرجال ففرِّغ لأُولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أُمورهم
ثمّ اعمل فيهما بالإعذار إلى الله يوم تلقاه فإنّ هؤلاء أحوج إلى الإنصاف من غيرهم
فأعذر إلى الله في تأدية حقّه إليه .
وتعهّد
أهل اليُتم والزمانة والرقّة في السنّ ممّن لا حيلة ولا ينصب للمسألة نفسه فأجرِ لهم
أرزاقاً فإنّهم عباد الله فتقرّب إلى الله بتخلّصهم ووضعهم مواضعهم في أقواتهم وحقوقهم
فإنّ الأعمال تخلص بصدق النيّات . ثمّ إنّه لا تسكن نفوس الناس أو بعضهم إلى أنّك قد
قضيت حقوقهم بظهر الغيب دون مشافهتك بالحاجات وذلك على الولاة ثقيل والحقّ كلّه ثقيل
وقد يخفّفه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا نفوسهم ووثقوا بصدق موعود الله لمن
صبر واحتسب فكن منهم واستعن بالله .
واجعل
لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وذهنك من كلّ شغل ثمّ تأذن لهم عليك وتجلس
لهم مجلساً تتواضع فيه لله الذي رفعك وتُقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك تخفض
لهم في مجلسك ذلك جناحك وتُلين لهم كنفك في مراجعتك ووجهك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير
مُتعتع فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)يقول في غير موطن : لن تقدّس أُمّة
لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متعتع .
ثمّ
احتمل الخرق منهم والعيّ ونحِّ عنك الضيق والأنف يبسط الله عليك أكناف رحمته ويوجب
لك ثواب أهل طاعته فأعط ما أعطيت هنيئاً وامنع في إجمال وإعذار « وتواضع هناك فإنّ
الله يحبّ المتواضعين . وليكن أكرم أعوانك عليك ألينهم جانباً وأحسنهم مراجعة وألطفهم
بالضعفاء إن شاء الله .
ثمّ
إنّ أُموراً من أُمورك لابدّ لك من مباشرتها منها : إجابة عمّالك ما يعي عنه كتّابك
. ومنها : إصدار حاجات الناس في قصصهم . ومنها : معرفة ما يصل إلى الكتّاب والخزّان
ممّا تحت أيديهم فلا تتوانَ فيما هنالك ولا تغتنم تأخيره واجعل لكلّ أمر منها من يناظر
فيه ولاته بتفريغ لقلبك وهمّك فكلّما أمضيت أمراً فأمضه بعد التروية ومراجعة نفسك ومشاورة
وليّ ذلك بغير احتشام ولا رأي يكسب به عليك نقيضه .
ثمّ
أمضِ لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه . واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك
المواقيت وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلّها لله إذا صحّت فيها النيّة وسلمت منها الرعية
.
وليكن
في خاصّ ما تخلص لله به دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصّة فأعطِ الله من بدنك في
ليلك ونهارك ما يجبّ « فإنّ الله جعل النافلة لنبيّه خاصّة دون خلقه فقال : (وَمِنَ
اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً
مَحْمُوداً) فذلك أمر اختصّ الله به نبيّه وأكرمه به ليس لأحد سواه وهو لمن سواه تطوّع
فإنّه يقول : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) .
فوفّر
ما تقرّبت به إلى الله وكرمه وأدّ فرائضه إلى الله كاملا غير مثلوب ولا منقوص بالغاً
ذلك من بدنك ما بلغ .
فإذا
قمت في صلاتك بالناس فلا تُطوِّلنّ ولا تكوننّ منفّراً ولا مضيّعاً فإنّ في الناس من
به العلّة وله الحاجة وقد سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وجّهني إلى اليمن
: كيف نصلّي بهم ؟
فقال
: صلّ بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيماً .
وبعد
هذا فلا تطولنّ احتجابك عن رعيّتك فإنّ احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلّة
علم بالأُمور والاحتجاب يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير
ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويُشاب الحقّ بالباطل وإنّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى
عنه الناس به من الأُمور وليست على القول سمات يعرف بها الصدق من الكذب فتحصّن من الإدخال
في الحقوق بلين الحجاب فإنّما أنت أحد رجلين : إمّا امرء سخت نفسك بالبذل في الحقّ
ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه أو خلق كريم تسديه ؟ وإمّا مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ
الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤونة عليك
فيه من شكاية مظلمة أو طلب إنصاف . فانتفع بما وصفت لك واقتصر فيه على حظّك ورشدك إن
شاء الله .
ثمّ
إنّ للملوك خاصّة بِطانة فيهم استئثار وتطاول وقلّة إنصاف فاحسم مادّة أُولئك بقطع
أسباب تلك الأشياء ولا تقطعنّ لأحد من حشمك ولا حامّتك قطيعة ولا تعتمدنّ في اعتقاد
عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونتهم على غيرهم فيكون
مَهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة .
عليك
بالعدل في حكمك إذا انتهت الأُمور إليك وألزم الحقّ من لزمه من القريب والبعيد وكن
في ذلك صابراً محتسباً وافعل ذلك بقرابتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليه منه فإنّ
مغبّة ذلك محمودة . وإن ظنّت الرعية بك حيفاً فأصحِر لهم بعذرك وأعدل عنك ظنونهم بإصحارك
فإنّ في تلك رياضة منك لنفسك ورفقاً منك برعيّتك وإعذاراً تبلغ فيه حاجتك من تقويمهم
على الحقّ في خفض وإجمال .
لا تدفعنّ
صلحاً دعاك إليه عدوّك فيه رضى فإنّ في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك
. ولكنّ الحذر كلّ الحذر من مقاربة عدوّك في طلب الصلح فإنّ العدو ربما قارب ليتغفّل
فخذ بالحزم « وتحصّن كلّ مخوف تؤتى منه وبالله الثقة في جميع الأُمور .
وإن
لجّت بينك وبين عدوّك قضية عقدت بها صلحاً أو ألبسته منك ذمّة فحُط عهدك بالوفاء وارع
ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جُنّة دونه فإنّه ليس شيء من فرائض الله جلّ وعزّ الناس
أشدّ عليه اجتماعاً في تفريق أهوائهم وتشتيت أديانهم من تعظيم الوفاء بالعهود وقد لزم
ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استَوبَلوا من الغدر والختر فلا تغدرنّ بذمّتك
ولا تخفر بعهدك ولا تختلنّ عدوّك فإنّه لا يجترئ على الله إلاّ جاهل وقد جعل الله عهده
وذمّته أمناً أفضاه بين العباد برحمته وحريماً يسكنون إلى مَنَعته ويستفيضون به إلى
جواره فلا خداع ولا مدالسة ولا إدغال فيه . فلا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله
على طلب انفساخه فإنّ صبرك على ضيق ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته
وأن تحيط بك من الله طلبة ولا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك .
وإيّاك
والدماء وسفكها بغير حلّها فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى لزوال
نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير الحقّ والله مبتدئ بالحكم بين العباد فيما يتسافكون
من الدماء فلا تصوننّ سلطانك بسفك دم حرام فإنّ ذلك يخلقه ويزيله « فإيّاك والتعرّض
لسخط الله فإنّ الله قد جعل لولي من قتل مظلوماً سلطاناً قال الله : (وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ
إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً) .
ولا
عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لأنّ فيه قود البدن فإن ابتليت بخطأ وأفرط عليه
سوطك أو يدك لعقوبة فإنّ في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحنّ
بك نخوة
سلطانك عن أن تؤدّي إلى أهل المقتول حقّهم ديّة مسلّمة يتقرّب بها إلى الله زلفى .
إيّاك
والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء فإنّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في
نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسن .
إيّاك
والمنّ على رعيّتك بإحسان أو التزيّد فيما كان من فعلك أو تعِدهم فتتبع موعدك بخُلفك
أو التسرّع إلى الرعية بلسانك فإنّ المنّ يبطل الإحسان والخُلف يوجب المقت وقد قال
الله جلّ ثناؤه :
(كَبُرَ
مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) .
إيّاك
والعجلة بالأُمور قبل أوانها والتساقط فيها عند زمانها واللجاجة فيها إذا تنكّرت والوهن
فيها إذا أوضحت فضع كلّ أمر موضعه وأوقع كلّ عمل موقعه .
وإيّاك
والاستئثار بما للناس فيه الأُسوة « والاعتراض فيما يعنيك والتغابي عمّا يعنى به ممّا
قد وضح لعيون الناظرين فإنّه مأخوذ منك لغيرك . وعمّا قليل تُكشف عنك أغطية الأُمور
ويبرز الجبّار بعظمته فينتصف المظلومون من الظالمين .
ثمّ
املك حميّة أنفك وسورة حِدّتك وسطوة يدك وغرب لسانك . واحترس كلّ ذلك بكفّ البادرة
وتأخير السطوة . وارفع بصرك إلى السماء عندما يحضرك منه حتّى يسكن غضبك فتملك الاختيار
ولن تحكم ذلك من نفسك حتّى تُكثر همومك بذكر المعاد .
ثمّ
اعلم أنّه قد جمع ما في هذا العهد من صنوف ما لم آلك فيه رشداً إن أحبّ الله إرشادك
وتوفيقك أن تتذكّر ما كان من كلّ ما شاهدت منّا فتكون ولايتك هذه من حكومة عادلة أو
سنّة فاضلة أو أثر عن نبيّك (صلى الله عليه وآله) أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما
شاهدت ممّا عملنا به منها وتجتهد نفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي واستوثقت من
الحجّة لنفسي لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها . فليس يعصم من السوء ولا
يوفّق للخير إلاّ الله جلّ ثناؤه .
وقد
كان ممّا عهد إلي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصايته تحضيضاً على الصلاة والزكاة
وما ملكت أيمانكم فبذلك أختم لك ما عهدت ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم
.
وأنا
أسأل الله سعة رحمته وعظيم مواهبه وقدرته على إعطاء كلّ رغبة أن يوفّقني وإيّاك لما
فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح وإلى خلقه مع حسن الثناء في العبادة وحسن الأثر
في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة وإنّا إليه
راغبون . والسلام على رسول الله وعلى آله الطيّبين الطاهرين وسلّم كثيراً .
(انتهى)
الهامش:ـ
بالنسبة
لهؤلاء الرواة كلهم ثقاة، وللمزيد راجع : المعجم 7912 ، وفهرست الشيخ 694 ، ورجال الشيخ
-5859- ، والنجاشي 1180 ، والنجاشي 140 ، والنجاشي 116 ، ورجال الشيخ 1147 ، والنجاشي
: 5
قال
المحقق الكبير ابو القاسم الخوئي في مباني تكملة المنهاج 1/ 5 :
وطريق الشيخ إلى عهده (ع) إلى مالك الاشتر معتبر.
وقال
في معجم رجال الحديث 4/ 96 :
..وطريق
الشيخ بالنسبة إلى عهد مالك الاشتر صحيح .
المصادر والمراجع
1ـ نهج البلاغة/ تحقيق: صبحي الصالح/ (قسم
الكتب الكتاب رقم 53) ص 427
(راجع نهج البلاغة
شرح ابن ابي الحديد(قسم
الكتب الكتاب رقم 53) ـ ونهج البلاغة شرح
محمد عبده(قسم
الكتب الكتاب رقم 53)
2ـ معادن
الحكمة/ محمد محسن الفيض الكاشاني/ ج1 نص 109
3ـ تحف
العقول / أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة ﺍﻟﺤﺮﺍﻧﻲ/
ص126
4ـ أداب
الملوك/السيد الجليل نظام العلماء الميرزا رفيع الدين الطباطبائي التبريزي المتوفى
سنة 1326هـ.
5ـ اساس السياسة في تأسيس الرياسة/ الواعظ
الماهر الشيخ محمد بن المولى اسمعيل الكجوري الطهراني المتوفى سنة 1353هـ.
6ـ شرح عهد أمير المؤمنين/العلامة المجلسي
المولى محمد باقر الأصفهاني المتوفى سنة 1111هـ.
7ـ مقتبس السياسة وسياج الرياسة وهو شرح للعهد
مأخوذ من شرح الشيخ محمد عبده لنهج البلاغة.
8ـ
اعيان الشيعة / محسن الأمين/ دار التعارف.
9ـ عهد الاشتر / محمد مهدي شمس الدين/ المؤسسة
الدولية للدراسات والنشر، ط2، 1421هـ -2000 م.
10ـ مالك الاشتر /
محمد تقي الحكيم.
11ـ عهد الإمام عليّ إلى مالك الأشتر/ علي الأنصاري/
دار سروش للطباعة والنشر ـ طهران/ الطبعة: الأولى ـ سنة 1403 هـ / 1983 م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق