مقتل الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم.
تمر علينا في الخامس والعشرين من شهر رجب الاصب الذكرى الأليمة لاستشهاد الكوكب النقيب ، وابن رسول الله وخليفته ، سمي الكليم ، وشبيه المسيح ، باب الحوائج موسى الكاظم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم
وبهذه المناسبة اتشرف بتقديم التعازي إلى الحضرة المقدسة العالية الرفيعة لمولانا الحجة بن الحسن صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف ) والى سماحة السيد القائد مقتدى الصدر (اعزه الله بعزه) والى علمائنا العاملين المخلصين وأفراد جيش الإمام المهدي(ع) ، وباقي المؤمنين والمؤمنات بهذا المصاب الجلل ، وبهذه المناسبة الأليمة
وأسأل الباري جل جلاله أن يعينني على عرض لمحة تاريخيه مختصرة عن هذه الفاجعة العظيمه ، واستغفر الله عن كل تقصير وقصور فيها.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم.
تمر علينا في الخامس والعشرين من شهر رجب الاصب الذكرى الأليمة لاستشهاد الكوكب النقيب ، وابن رسول الله وخليفته ، سمي الكليم ، وشبيه المسيح ، باب الحوائج موسى الكاظم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم
وبهذه المناسبة اتشرف بتقديم التعازي إلى الحضرة المقدسة العالية الرفيعة لمولانا الحجة بن الحسن صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف ) والى سماحة السيد القائد مقتدى الصدر (اعزه الله بعزه) والى علمائنا العاملين المخلصين وأفراد جيش الإمام المهدي(ع) ، وباقي المؤمنين والمؤمنات بهذا المصاب الجلل ، وبهذه المناسبة الأليمة
وأسأل الباري جل جلاله أن يعينني على عرض لمحة تاريخيه مختصرة عن هذه الفاجعة العظيمه ، واستغفر الله عن كل تقصير وقصور فيها.
أولاـ نور الابواء
ولد الإمام موسى
الكاظم(عليه السلام) وشع نوره المقدس ، في الابواء قرب المدينة المنورة في
السابع من شهر صفر الخير سنة 128هجرية (القرشي عن وفيات الاعيان4/395 ،
وتهذيب التهذيب 10/34 ، والطبقات الكبرى 1/33 ، ونور الأبصار ص135 ،
والمناقب 4/123 ، وكشف الغمة 3/2)
وبعد ثلاثة أيام من الولادة المقدسة ارتحل الإمام الصادق(عيه السلام) إلى المدينة وأقام تكريما لوليده المبارك فأطعم الناس من أجله أطعاما عاما لثلاثة أيام وتدرج الإمام الكاظم(عليه السلام ) في كنف ورعاية مولانا الإمام الصادق (عليه السلام ) والذي قاله له يوما :
(الحمد لله الذي جعلك خلفا من الآباء وسرورا من الأبناء وعوضا عن الأصدقاء ) وانتشر صيت الامام الكاظم(عليه السلام) في البلدان بسرعة كبيره لأسباب عديدة منها : الانتشار الكبير لحلقات الدروس العلمية في الحوزة الناطقة الشريفة بعهد مولانا الإمام الصادق، مما جعل الكثير من طلبة الحوزة وعلمائها وزوارها من الملل والنحل الأخرى يتعرفون على الإمام الكاظم (عليه السلام) وينهلون من علومه وإرشاداته بالرغم من المحافظة الشديدة على شخصه الشريف من قبل الإمام الصادق(ع) ؛ لأنه الوصي من بعده ..
وفي نفس الوقت بين الإمام الصادق(ع) بعض من الحقائق حول الإمام الكاظم (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام):
ولدي موسى شبيه عيسى بن مريم (الشيخ القرشي عن دائرة المعارف لمحمد فريد وجدي ج9ص594)
وضمه إليه الإمام الصادق(ع) يوما وهو يقول له:
بأبي أنت وأمي من لايلهو ولا يلعب (القرشي عن البحار 11/236)
ثانيا ـ قيادة الامة
بعد إستشهاد الإمام الصادق(عليه السلام) والتحاقه بآبائه الطاهرين(عليهم السلام) التف خيرة المؤمنون بإمامهم الكاظم(عليه السلام)، لإكمال مسيرة التكامل الإلهي بقيادة هذا الإمام الهمام(عليه السلام) ولم يكن هذا الشيء خافيا على السلطات العباسية وأعوانهم خصوصا وأنهم استيقنوا بأنهم جالسين على منابر مسروقة من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
ففي كتاب ينابيع المودة للشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي ج3 ص32 ، كما نقل عنه ذلك الشيخ القرشي ، قال هارون العباسي لولده المأمون حين سأله عن سبب أكباره وإجلاله لشخص الإمام الكاظم(عليه السلام) :
يا بني : هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه ، وخليفته على عباده ،أنا امام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر ، وانه والله لأحق بمقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مني ومن الخلق جميعا ، ووالله لو نازعني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناه فأن الملك عقيم.
وأضاف إلى ذلك قوله : يا بني هذا وارث علم النبيين هذا موسى بن جعفر إن أردت العلم الصحيح تجده عند هذا
ثالثاـ بغض الطغاة للحق وأهله
قال المأمون العباسي يوما لندمائه (القرشي عن بحار الأنوار ج11ص270ـ272):
أتدرون من علمني التشيع؟ فانبروا جميعا قائلين:
لا والله ما نعلم !
قال: علمني ذلك الرشيد ، فقالوا كيف ذلك ؟ والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت !
قال كان يقتلهم على الملك لأن الملك عقيم ، ثم أخذ يحدثهم عن ذلك قائلا : لقد حججت معه سنة فلما انتهى إلى المدينة ، قال :
لايدخل على رجل من أهلها أو من المكيين سواء كانوا من أبناء المهاجرين والأنصار أو من بني هاشم حتى يعرفني بنسبه وأسرته ، فأقبلت إليه الوفود تترى وهي تعرف الحاجب بأنسابها ، فيأذن لها ، وكان يمنحها العطاء حسب مكانتها ومنزلتها ، وفي ذات يوم اقبل الفضل بن الربيع حاجبه وهو يقول له: رجل على الباب ، زعم انه موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فلما سمع ذلك هارون أمر جلسائه بالوقار والهدوء ، ثم قال لرئيس تشريفاته ائذن له ، ولا ينزل إلا على بساطي ، وأقبل الإمام(عليه السلام) وقد وصفه المأمون فقال:
انه شيخ قد أنهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم السجود وجهه .
فلما رآه هارون قام إليه وأراد الإمام أن ينزل عن دابته ، فصاح الرشيد : لا والله إلا على بساطي .
فمنعه الحجاب من الترجل ، ونظرنا إليه بالإجلال والإعظام ، وسار راكبا إلى البساط ، والحجاب وكبار القوم محدقون به ، واستقبله هارون ، فقبل وجهه وعينيه ، وأخذ بيده حتى صيره في صدر مجلسه وأقبل يسأله عن أحواله ويحدثه ، ثم قال له :
يا أبا الحسن ما عليك من العيال ؟ قال الإمام (ع):( يزيدون على الخمسمائة ).
قال هارون : أولاد كلهم ؟ ، قال الإمام (ع) : (لا ، أكثرهم موالي وحشمي ، فأما الولد فلي نيف وثلاثون )
ثم بين(ع) له عدد الذكور والإناث .
فقال هارون : لم لاتزوج النسوة من بني عمومتهن ؟ ، قال الإمام (ع) : (اليد تقصر عن ذلك ) ، قال هارون : فما حال الضيعة ؟ قال الإمام(ع) : ( تعطي في وقت وتمنع في آخر )
قال هارون : فهل عليك دين ؟ قال الإمام(ع) : (نعم )
قال هارون : كم ، قال الإمام(ع) : ( نحو من عشرة الآف دينار ). قال هارون : يابن العم أنا أعطيك من المال ماتزوج به أولادك وتعمر به الضياع
قال الإمام(ع) : وصلتك رحم يا بن العم ، وشكر الله لك هذه النية الجميلة ، والرحم ماسة واشجه ، والنسب واحد، والعباس عم النبي وصنو أبيه ، وعم علي بن أبي طالب (ع) وصنو أبيه ، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك ، وقد بسط يدك ، وأكرم عنصرك ، وأعلى محتدك .
فقال هارون : أفعل ذلك ياأبا الحسن وكرامة .
فقال له الإمام(ع) : ( إن الله عز وجل قد فرض على ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الأمة ، ويقضوا على الغارمين ، ويؤدوا عن المثقل ويكسوا العاري ، وأنت أولى من يفعل ذلك ).
قال هارون : أفعل ذلك ياابا الحسن .
ثم انصرف الإمام(ع) فقام هارون تكريما له فقبل مابين عينيه ووجهه ثم التفت إلى أولاده فقال لهم : قوموا بين يدي عمكم وسيدكم ، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله ، فانطلقوا مع الإمام بخدمته وأسر (ع) إلى المأمون فبشره بالخلافة وأوصاه بالإحسان إلى ولده ، ولما فرغوا من القيام بخدمته وإيصاله إلى داره ، قال المأمون : كنت أجرأ ولد أبي عليه ، فلما خلا المجلس قلت له : يا أمير المؤمنين ، من هذا الرجل الذي عظمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له، قال هارون : هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده .
قال المأمون : ياأمير المؤمنين اوليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟ قال هارون : انا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر وموسى بن جعفر إمام حق ، والله يابني : انه لأحق بمقام رسول الله(ص) مني ومن الخلق جميعا ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فأن الملك عقيم.
وبقي هارون في يثرب مدة من الأيام ، فلما أزمع على الرحيل منها أمر للإمام بصلة ضئيلة قدرها مائتا دينار ، وأوصى الفضل بن الربيع أن يعتذر له عند الإمام ، فانبرى إليه المأمون وهو مستغرب من قلة صلته مع كثرة تعظيمه وتقديره له قائلا : ياامير المؤمنين : تعطي أبناء الهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لايعرف نسبه خمسة آلاف دينار ، وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار أخس عطية أعطيتها أحدا من الناس ، فثار هارون وصاح في وجهه قائلا: اسكت لا ام لك فأني لو أعطيت هذا ماضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه ، وفقر هذا وأهل بيته اسلم لي ولكم من بسط أيديهم .
والذي يُستشف من هذه الرواية عدة أمور منها:ـ
1ـ إن لله تعالى الحجة الدامغة على الخلق جميعا ، ومن هؤلاء الخلق الطواغيت المتسلطين على رقاب الناس بالقهر والغلبة وذلك بأنهم جميعا وبلا استثناء مستيقنين بباطلهم مهما حاولوا اخفاء الحقائق وتقليب الأمور، إضافة إلى ذلك فانهم مستيقنين بجهة الحق ومن يمثلها بكل زمان ومكان ،إلا إنهم اتخذوا الههم هوى النفس الأمارة بالسوء ، وجعلوا الشيطان إماما عليهم فأوردهم النار وبئس الورد المورود ، وذلك هو الخسران المبين .
2 ـ قيام الطواغيت بشتى ألوان المحاربة ضد أهل الحق ومن هذه الألوان سياسة التجويع والحصار الاقتصادي ، ليبقى أهل الحق مشغولين دائما بتوفير لقمة العيش الكريم وسائر الحاجات الضرورية لعيالهم ، آملين(الطواغيت) بذلك أن لايخرج أهل الحق من دائرة الضعف هذه حتى لايشكلون خطرا عليهم .
3ـ ممارسة غالبية الطواغيت لخصلة النفاق مع أئمة أهل الحق حين لايجدون (مهما سعوا )أي ثغرة عليهم فبالظاهر وأمام العامة والخاصة يكنون لهم بالغ الود والاحترام وفي الخفاء يقومون بحياكة ألوان الدسائس والحيل للتخلص منهم ومن أتباعهم .
4 ـ اظهر هارون العباسي تلويح إن لم يصل إلى حد التصريح بالنية المبطنة له على قتل الإمام(ع) .
5ـ هيبة الإمام وولايته الإلهية جعلت هارون خاضعا ذليلا في حضرته مما جعله يضمن للإمام مبلغ كبير بما يزوج به (ع)الأولاد ويعمر به (ع) الضياع ، ولكن بعد خروج الإمام(ع) من مجلسه ، عاد هارون العباسي إلى نفسه الأمارة بالسوء والى شيطانه فنقض وعده ، لخوفه من تقوية حال أهل الحق وهذا ديدن اللصوص المنافقين والطواغيت المستبدين .
6ـ لم يكن السؤال من جانب الحاكم العباسي من أجل خدمة الإمام(ع)، إنما كان يريد معرفة شيء من أحوال الإمام المعيشية والاقتصادية وغيرها ، وكان مسرورا عندما علم بالحالة الاقتصادية الصعبة للإمام(ع) ، وكان يتمنى بقائها لأنه يجد فيها ضمانه لبقاء حكمه وحكم أولاده لعلمه اليقيني بعدم رضا أهل البيت عن الظلم الفاحش الذي يمارسه حكام بني العباس بحق الرعية .
7ـ بين الإمام(ع) لهارون العباسي بعض الواجبات المترتبة على من يتولى أمور الناس ، وفيها اشارة على ظلم هارون (وأنت أولى من يفعل ذلك)، كونه المتسلط على رقاب المسلمين وعدم تأديته لواجباته اتجاههم، وهذا لايخص هارون فقط بل يخص جميع المسؤولين والرعاة لأمور الناس في كل زمان ومكان .
8 ـ إن الإمام(ع)كان يعلم بأن هارون لن يفي بوعده ونبهه (ع) على هذا الشيء ، والتفت هارون لهذا التنبيه لذلك أكد ثلاث مرات على انه سيفعل ذلك ومع كل ذلك أخلف وعده .
9ـ أعطى هارون الحاكم الظالم درسا لأبنائه وخصوصا المأمون في كيفية التعامل مع أهل هذا البيت المقدس ، وقد نبه الإمام(ع)المأمون بالإحسان إلى أولاده (أي لاتتخذ سلوك أبيك الظالم مع أهل الحق) بعد أن أخبره بأنه سيتولى الحكم ، ولكن هذا الأخير كان امكر وأخبث من أبيه (والذي خبث لا يخرج الانكدا)
10ـ في الرواية تصريح جلي من ندماء المأمون بكثرة الدماء الطاهرة لأهل البيت(ع) التي سفكت على يد الطاغية هارون العباسي واسرته
11ـ هارون العباسي على يقين من كثرة أتباع ومحبي الإمام وان الإمام قادر على استنفار جيش من المقاتلين ، ومع ذلك فان الإمام لا يفعل ذلك ؛ لأن هدف الإمام ليس الحصول على السلطة كما يظن الطواغيت ومنهم هارون العباسي ، إنما هدف الإمام هو نشر السلام والإسلام بين الناس والأخذ بأيديهم نحو التكامل في العلم والأخلاق وحثهم على التسابق نحو مرضات الله والمسارعة إلى مغفرته .. كيف لا اوليس هم سفينة النجاة وأبواب رحمة الله الواسعة ، ومع ذلك فان الطاغية الذي أعماه حب الدنيا وملذاتها يعمل بما يعتقد به من أسباب ماديه لمنع الإمام من القيام بوجه ظلمه وظلم أمثاله من طواغيت ومتجبرين .
12ـ الحرص الشديد من قبل الطاغية هارون العباسي على الحكم مهما كان ، حتى تناقلت الأجيال مقولته المشهورة في ذلك وهي قوله : لو نازعني رسول الله (ص) لأخذت الذي فيه عيناه
لذلك فقد كان متفانيا في حب السلطة وأنه مستعد لانتهاك كل الحرمات من أجلها ، وكان في ذلك مثال سوء وقدوه طالحه لكل الطواغيت والظلمة .
هذا بعض ما يمكن أن يستفاد من هذه الرواية ، إضافة إلى ذلك من المهم الالتفات الى إن هارون العباسي قد ورث من سلفه البغض الشديد لأهل البيت كونهم الورثة الوحيدين لمقام المصطفى الخاتم(صلى الله عليه وآله) ، وان غالبية الناس تميل إليهم بالرغم من كل سياسات الترغيب والترهيب التي مارسها حكام الجور ، وقد أترعت نفس الطاغية العباسي بالحسد والحقد الشديد على العلويين وقد أقسم على استئصالهم وقتلهم فقال:
والله لأقتلنهم ـ أي العلويين ـ ولاقتلن شيعتهم (القرشي عن الأغاني 5/225) فما إن استولى هذا الطاغية على الحكم حتى اصدر مرسوما ملكيا يقضي بإخراج العلويين فورا من بغداد إلى المدينة فقامت السلطات بنفيهم عنها(القرشي عن التمدن الإسلامي 4/47) وقد قتل(وعلى رأى آخر إن المرتكب لهذه الجريمة المنصور الدوانيقي ) منهم في ليلة واحدة ستين شخصا على يد الجزار حميد بن قحطبه (عليه وعلى أمثاله لعنة الله الأبدية) (القرشي عن البحار 11/285ـ286) ومن أعلام العلويين الذين قتلهم هذا الطاغية :ـ
عبد الله بن الحسن بن علي بن زين العابدين(ع)
والعباس بن محمد بن عبد الله بن زين العابدين(ع)
وإدريس بن عبد الله بن بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين(ع) ويحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين(ع)
ومحمد بن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الامام الحسن(ع)
وإسحاق بن الحسن بن زيد بن الحسن علي بن أبي طالب(ع) ... (القرشي عن مقاتل الطالبيين ،وتأريخ الطبري ، وتأريخ ابن الأثير ، ووفيات الأعيان )
وقام اللعين ببذل الأموال الطائله للشعراء من اجل تشويه سمعة أهل البيت(عليهم السلام) ، أمثال:ـ
الشاعر أبان بن عبد الحميد (القرشي عن الأغاني 20/75ـ 76 ) والشاعر مروان بن أبي حفصة (القرشي عن الطبري 3/473)
وقام اللعين بهدم الضريح المقدس لسيد الشهداء أبو عبد الله الحسين(ع) وقطع السدرة التي كانت قرب القبر الشريف (القرشي عن المناقب 2/19 ، والامالي ص206 [وجاء فيها إن يحيى بن المغيرة الرازي قال: كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق ، فسأله جرير عن خبر الناس ، فقال تركت الرشيد ، وقد كرب قبر الحسين (ع) وأمر أن تقطع السدرة فقطعت ، فرفع جرير يديه وقال الله اكبر جاءنا فيه حديث عن رسول الله(ص) انه قال: لعن الله قاطع السدرة ثلاثا ، فلم نقف على معناه حتى الآن ،لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لايقف الناس على قبره ]
رابعاـ بحث الطاغية العباسي عن مسوغات لاعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) ومن ثم قتله
1ـ إضافة إلى ما ذكر أعلاه ( وهو نزر يسير من جرائم هذا الطاغية العباسي) ، فلقد كان يتحين الفرص من اجل التنكيل بزعيم العلويين وسيد المسلمين ، مولانا الإمام الكاظم(ع)
وكان يبحث جاهدا عن الحصول على مسوغ من أجل قتل الإمام أو زجه في السجن ، وغالبا ماتأتي الأذية للمعصومين(ع) والقادة الإلهيين من المحسوبين عليهم نتيجة سوء التصرف أو عدم الالتزام بالكتمان أو الخيانة من أجل حطام الدنيا ......
فقد نقل الشيخ القرشي عن الصباغ في كتابه الفصول المهمة ص252 ، إن البعض ممن باع آخرته بدنياه ، سعى بالإمام (ع) والوشاية به عند الطاغية هارون وانه تجلب له (ع) الأموال (الحقوق الشرعية) من سائر البلدان الإسلامية وانه يسعى للخلافة .......وهذا كان من جملة الأسباب التي دعت هارون العباسي إلى اعتقال الإمام(ع)، وقد نقل الشيخ القرشي (عن :ـ عيون أخبار الرضا ، وغيبة الشيخ الطوسي ، والبحار ، والمناقب ) ، الرواية الاتيه التي تكشف عن بعض ممن سعى بالإمام(ع) وكان في طليعتهم يحيى البرمكي وكان السبب في وشايته ـــ فيما يقول الرواة ـــ هو إن هارون قد جعل ولي عهده محمد بن زبيدة عند جعفر بن محمد بن الأشعث ، فساء ذلك يحيى وأحاطت به هواجس مريرة ، وخاف أن تنقضي دولته ودولة ولده إذا أفضى الأمر إلى محمد ، وان زمام الدولة سيكون بيد جعفر ، وكان يحيى قد عرف ميوله واتجاهه نحو العلويين وانه يذهب إلى إمامة موسى(ع) ، فاختلى به وعرفه بفكرته وان له ميولا نحو العلويين فسر جعفر بذلك وعرفه بفكرته ، ولما علم يحي ذلك منه سعى به إلى الرشيد فتأثر منه ، ولكنه لم يوقع به أي مكروه لأنه تذكر أياديه وجميل أبيه على العباسيين . ودخل جعفر على الرشيد فوسع له في مجلسه ، وجرى بينهما حديث استطابه هارون ، فأمر له بعشرين ألف دينار ، فغضب يحيى ، فلما كان اليوم الثاني دخل عليه فقال له ، ياأمير المؤمنين ، كنت أخبرتك عن جعفر ومذهبه ، فتكذب ذلك ـــ وها هنا أمر فيه الفيصل ـــ قال الرشيد ما هو ؟ قال يحيى : انه لايصل إليه مال من جهة من الجهات إلا أخرج خمسه فوجه به إلى موسى بن جعفر ، ولست اشك في العشرين ألف دينار انه وجه خمسها إليه . قال هارون : إن في هذا لفيصلا .
فأرسل في الوقت خلف جعفر ، فلما انتهى إليه الرسول عرف سعاية يحيى به فلم يشك في إن هارون إنما دعاه في غلس الليل ليقتله ، فأفاض عليه الماء واغتسل غسل الأموات ، واقبل إلى الرشيد فلما وقع بصره عليه وشم منه رائحة الكافور قال له : ماهذا ؟ قال: ياأمير المؤمنين : قد علمت انه قد سعى بي عندك ، فلما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن من أن يكون قد انقدح في نفسك ما يقال علي ، فأرسلت إلي لتقتلني .
قال هارون : كلا ، ولكن قد أخبرت انك تبعث الى موسى بن جعفر من كل ما يصير إليك بخمسه ، وانك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار التي وهبتها لك ، فأحببت أن اعلم ذلك؟
قال جعفر : الله اكبر يا أمير المؤمنين ، تأمر بعض خدمك ليذهب فيأتيك بها بخواتيمها .
فأمر الرشيد بعض خدمه فأتاه بها على ما هي عليه لم يؤخذ منها شيء، فبدا السرور على سحنات وجه وقال له : هذا أول مانعرف كذب من سعى بك إلي ، صدقت ياجعفر انصرف آمنا ، فأني لااقبل فيك قول أحد .
فخجل يحيى وباء بالخزي والخسران ، وازداد غيضه وحنقه وأخذ يعمل جاهدا في إسقاط مكانة جعفر وزوال نعمته ، فرأى أن يسعى بالإمام موسى (ع) ليتوصل بذلك إلى النكاية به ، فقال ليحيى بن أبي مريم : الا تدلني على رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها ؟ فقال له نعم ، ذلك علي بن إسماعيل بن جعفر (وقيل إن الساعي هو محمد بن إسماعيل)، فأرسل خلفه يحيى وكان آنذاك في الحج ، فلما أجتمع به قال له يحيى : اخبرني عن عمك موسى ، وعن شيعته وعن المال الذي يحمل إليه فقال : عندي الخبر ، وحدثه بما يريد ، فطلب منه أن يرحل معه إلى بغداد ليجمع بينه وبين الرشيد فأجابه إلى ذلك فلما سمع الإمام موسى (ع) بسفره مع يحى بعث خلفه فقال(ع) له :
بلغني انك تريد السفر ؟ قال: نعم قال(عليه السلام) :
(إلى أين ؟)، قال: إلى بغداد
قال(عليه السلام) ما تصنع ، قال: علي دين وأنا مملق
قال (عليه السلام) أنا أقضي دينك ، وأكفيك أمورك .
فلم يلتفت إلى الإمام ووسوست له نفسه وأجاب داعي الهوى فترك الإمام وقام من عنده، فقال(عليه السلام) له : لاتؤتم أولادي، ثم أمر (عليه السلام) له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم
وقال(عليه السلام) : والله ليسعي في دمي ويؤتم أولادي
فقال له أصحابه ، جعلنا الله فداك ، فأنت تعلم هذا من حاله ، وتعطيه ؟ فقال (ع): نعم حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله(ص) انه قال: إن الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها الله
وخرج علي يطوي البيداء حتى انتهى إلى بغداد ، فدخل على الرشيد فقال له بعد السلام عليه .
ما ظننت إن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلم عليه بالخلافة .
وقيل : انه قال له : إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب ، وان له بيوت أموال ، وانه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار ، وسماها (البسرية) فلما سمع ذلك الرشيد فقد صوابه وأحرقه الغيض ، وأمر لعلي بمائتي ألف درهم على أن يستحصلها من بعض نواحي المشرق فمضت الرسل لجباية المال إليه فدخل بيت الخلاء فزحر فيه وسقطت أمعاؤه فأخرج منها وهو يعاني آلام الموت ، فقيل له : إن الأموال قد وصلتك ، فقال : ما أصنع بها وقد أتاني الموت ، وقيل انه رجع إلى داره فهلك فيها في تلك الليلة التي اجتمع بها مع هارون
2ـ نقل الشيخ القرشي عن كتاب تذكرة الخواص ص359 ، إن من الأسباب التي دعت هارون العباسي إلى اعتقال الإمام هو احتجاج الإمام(عليه السلام) بأنه أولى من هارون ومن غيره بالنبي(صلى الله عليه وآله) وكان هذا الاحتجاج قرب الضريح المقدس للمصطفى الخاتم (ص) وأمام الأشراف وقادة الجيش وكبار موظفي الدولة العباسية وقيل إن هذه الحادثة جرت كما يلي :
اقبل هارون العباسي بوجهه إلى الضريح المقدس وسلم على النبي(صلى الله عليه وآله)قائلا: السلام عليك يا بن العم ، معتزا بذلك على من سواه ، وكان الإمام(ع) حاضرا فسلم على النبي(صلى الله عليه وآله ) قائلا : (السلام عليك يا أبت )
ففقد هارون صوابه واستولت عليه موجات من الاستياء ...فاندفع قائلا بنبرات تقطر غضبا : لم قلت انك أقرب إلى رسول الله (ص) منا ؟ فأجابه(عليه السلام) : ( لو بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيا وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك ؟
فقال هارون : سبحان الله وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم .
فانبرى الإمام (ع) ، يبين له الوجه في قربه من النبي (ص) دونه قائلا : ( لكنه لايخطب مني ولا أزوجه لأنه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم ) ، وقال الإمام(ع)أيضا : ( هل يجوز له أن يدخل على حرمك وهن مكشفات ؟ )، فقال هارون: لا
فقال الإمام(ع) : ( لكن له أن يدخل على حرمي ويجوز له ذلك فلذلك نحن أقرب إليه منكم ) [ونقل الشيخ القرشي في الهامش عن كتاب أخبار الدول ص113 ، وعن وفيات الأعيان : 1/ 394 ، وفي كتاب مرآة الجنان : 1/395 ، إن الإمام (ع) لما سلم على النبي (ص) بقوله ـــ ياأبت ـــ ، تغير وجه هارون ولم يطق جوابا ، وقال:ـ (هذا هو الفخر حقا ياأبا الحسن) ، وجاء في كتاب (الإتحاف بحب الأشراف ص55 ) إن هارون بعد ما سمع كلام الإمام(ع) ودليله على القرب من النبي(ص) قال له (ع ) ( لله درك إن العلم شجرة نبتت في صدوركم فكان لكم ثمرها ولغيركم الأوراق) ، وقيل انه بعد هذه الحادثة أمر الطاغية العباسي باعتقال الإمام(ع) وزجه في السجن
وبعد ثلاثة أيام من الولادة المقدسة ارتحل الإمام الصادق(عيه السلام) إلى المدينة وأقام تكريما لوليده المبارك فأطعم الناس من أجله أطعاما عاما لثلاثة أيام وتدرج الإمام الكاظم(عليه السلام ) في كنف ورعاية مولانا الإمام الصادق (عليه السلام ) والذي قاله له يوما :
(الحمد لله الذي جعلك خلفا من الآباء وسرورا من الأبناء وعوضا عن الأصدقاء ) وانتشر صيت الامام الكاظم(عليه السلام) في البلدان بسرعة كبيره لأسباب عديدة منها : الانتشار الكبير لحلقات الدروس العلمية في الحوزة الناطقة الشريفة بعهد مولانا الإمام الصادق، مما جعل الكثير من طلبة الحوزة وعلمائها وزوارها من الملل والنحل الأخرى يتعرفون على الإمام الكاظم (عليه السلام) وينهلون من علومه وإرشاداته بالرغم من المحافظة الشديدة على شخصه الشريف من قبل الإمام الصادق(ع) ؛ لأنه الوصي من بعده ..
وفي نفس الوقت بين الإمام الصادق(ع) بعض من الحقائق حول الإمام الكاظم (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام):
ولدي موسى شبيه عيسى بن مريم (الشيخ القرشي عن دائرة المعارف لمحمد فريد وجدي ج9ص594)
وضمه إليه الإمام الصادق(ع) يوما وهو يقول له:
بأبي أنت وأمي من لايلهو ولا يلعب (القرشي عن البحار 11/236)
ثانيا ـ قيادة الامة
بعد إستشهاد الإمام الصادق(عليه السلام) والتحاقه بآبائه الطاهرين(عليهم السلام) التف خيرة المؤمنون بإمامهم الكاظم(عليه السلام)، لإكمال مسيرة التكامل الإلهي بقيادة هذا الإمام الهمام(عليه السلام) ولم يكن هذا الشيء خافيا على السلطات العباسية وأعوانهم خصوصا وأنهم استيقنوا بأنهم جالسين على منابر مسروقة من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
ففي كتاب ينابيع المودة للشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي ج3 ص32 ، كما نقل عنه ذلك الشيخ القرشي ، قال هارون العباسي لولده المأمون حين سأله عن سبب أكباره وإجلاله لشخص الإمام الكاظم(عليه السلام) :
يا بني : هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه ، وخليفته على عباده ،أنا امام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر ، وانه والله لأحق بمقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مني ومن الخلق جميعا ، ووالله لو نازعني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناه فأن الملك عقيم.
وأضاف إلى ذلك قوله : يا بني هذا وارث علم النبيين هذا موسى بن جعفر إن أردت العلم الصحيح تجده عند هذا
ثالثاـ بغض الطغاة للحق وأهله
قال المأمون العباسي يوما لندمائه (القرشي عن بحار الأنوار ج11ص270ـ272):
أتدرون من علمني التشيع؟ فانبروا جميعا قائلين:
لا والله ما نعلم !
قال: علمني ذلك الرشيد ، فقالوا كيف ذلك ؟ والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت !
قال كان يقتلهم على الملك لأن الملك عقيم ، ثم أخذ يحدثهم عن ذلك قائلا : لقد حججت معه سنة فلما انتهى إلى المدينة ، قال :
لايدخل على رجل من أهلها أو من المكيين سواء كانوا من أبناء المهاجرين والأنصار أو من بني هاشم حتى يعرفني بنسبه وأسرته ، فأقبلت إليه الوفود تترى وهي تعرف الحاجب بأنسابها ، فيأذن لها ، وكان يمنحها العطاء حسب مكانتها ومنزلتها ، وفي ذات يوم اقبل الفضل بن الربيع حاجبه وهو يقول له: رجل على الباب ، زعم انه موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فلما سمع ذلك هارون أمر جلسائه بالوقار والهدوء ، ثم قال لرئيس تشريفاته ائذن له ، ولا ينزل إلا على بساطي ، وأقبل الإمام(عليه السلام) وقد وصفه المأمون فقال:
انه شيخ قد أنهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم السجود وجهه .
فلما رآه هارون قام إليه وأراد الإمام أن ينزل عن دابته ، فصاح الرشيد : لا والله إلا على بساطي .
فمنعه الحجاب من الترجل ، ونظرنا إليه بالإجلال والإعظام ، وسار راكبا إلى البساط ، والحجاب وكبار القوم محدقون به ، واستقبله هارون ، فقبل وجهه وعينيه ، وأخذ بيده حتى صيره في صدر مجلسه وأقبل يسأله عن أحواله ويحدثه ، ثم قال له :
يا أبا الحسن ما عليك من العيال ؟ قال الإمام (ع):( يزيدون على الخمسمائة ).
قال هارون : أولاد كلهم ؟ ، قال الإمام (ع) : (لا ، أكثرهم موالي وحشمي ، فأما الولد فلي نيف وثلاثون )
ثم بين(ع) له عدد الذكور والإناث .
فقال هارون : لم لاتزوج النسوة من بني عمومتهن ؟ ، قال الإمام (ع) : (اليد تقصر عن ذلك ) ، قال هارون : فما حال الضيعة ؟ قال الإمام(ع) : ( تعطي في وقت وتمنع في آخر )
قال هارون : فهل عليك دين ؟ قال الإمام(ع) : (نعم )
قال هارون : كم ، قال الإمام(ع) : ( نحو من عشرة الآف دينار ). قال هارون : يابن العم أنا أعطيك من المال ماتزوج به أولادك وتعمر به الضياع
قال الإمام(ع) : وصلتك رحم يا بن العم ، وشكر الله لك هذه النية الجميلة ، والرحم ماسة واشجه ، والنسب واحد، والعباس عم النبي وصنو أبيه ، وعم علي بن أبي طالب (ع) وصنو أبيه ، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك ، وقد بسط يدك ، وأكرم عنصرك ، وأعلى محتدك .
فقال هارون : أفعل ذلك ياأبا الحسن وكرامة .
فقال له الإمام(ع) : ( إن الله عز وجل قد فرض على ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الأمة ، ويقضوا على الغارمين ، ويؤدوا عن المثقل ويكسوا العاري ، وأنت أولى من يفعل ذلك ).
قال هارون : أفعل ذلك ياابا الحسن .
ثم انصرف الإمام(ع) فقام هارون تكريما له فقبل مابين عينيه ووجهه ثم التفت إلى أولاده فقال لهم : قوموا بين يدي عمكم وسيدكم ، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله ، فانطلقوا مع الإمام بخدمته وأسر (ع) إلى المأمون فبشره بالخلافة وأوصاه بالإحسان إلى ولده ، ولما فرغوا من القيام بخدمته وإيصاله إلى داره ، قال المأمون : كنت أجرأ ولد أبي عليه ، فلما خلا المجلس قلت له : يا أمير المؤمنين ، من هذا الرجل الذي عظمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له، قال هارون : هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده .
قال المأمون : ياأمير المؤمنين اوليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟ قال هارون : انا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر وموسى بن جعفر إمام حق ، والله يابني : انه لأحق بمقام رسول الله(ص) مني ومن الخلق جميعا ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فأن الملك عقيم.
وبقي هارون في يثرب مدة من الأيام ، فلما أزمع على الرحيل منها أمر للإمام بصلة ضئيلة قدرها مائتا دينار ، وأوصى الفضل بن الربيع أن يعتذر له عند الإمام ، فانبرى إليه المأمون وهو مستغرب من قلة صلته مع كثرة تعظيمه وتقديره له قائلا : ياامير المؤمنين : تعطي أبناء الهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لايعرف نسبه خمسة آلاف دينار ، وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار أخس عطية أعطيتها أحدا من الناس ، فثار هارون وصاح في وجهه قائلا: اسكت لا ام لك فأني لو أعطيت هذا ماضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه ، وفقر هذا وأهل بيته اسلم لي ولكم من بسط أيديهم .
والذي يُستشف من هذه الرواية عدة أمور منها:ـ
1ـ إن لله تعالى الحجة الدامغة على الخلق جميعا ، ومن هؤلاء الخلق الطواغيت المتسلطين على رقاب الناس بالقهر والغلبة وذلك بأنهم جميعا وبلا استثناء مستيقنين بباطلهم مهما حاولوا اخفاء الحقائق وتقليب الأمور، إضافة إلى ذلك فانهم مستيقنين بجهة الحق ومن يمثلها بكل زمان ومكان ،إلا إنهم اتخذوا الههم هوى النفس الأمارة بالسوء ، وجعلوا الشيطان إماما عليهم فأوردهم النار وبئس الورد المورود ، وذلك هو الخسران المبين .
2 ـ قيام الطواغيت بشتى ألوان المحاربة ضد أهل الحق ومن هذه الألوان سياسة التجويع والحصار الاقتصادي ، ليبقى أهل الحق مشغولين دائما بتوفير لقمة العيش الكريم وسائر الحاجات الضرورية لعيالهم ، آملين(الطواغيت) بذلك أن لايخرج أهل الحق من دائرة الضعف هذه حتى لايشكلون خطرا عليهم .
3ـ ممارسة غالبية الطواغيت لخصلة النفاق مع أئمة أهل الحق حين لايجدون (مهما سعوا )أي ثغرة عليهم فبالظاهر وأمام العامة والخاصة يكنون لهم بالغ الود والاحترام وفي الخفاء يقومون بحياكة ألوان الدسائس والحيل للتخلص منهم ومن أتباعهم .
4 ـ اظهر هارون العباسي تلويح إن لم يصل إلى حد التصريح بالنية المبطنة له على قتل الإمام(ع) .
5ـ هيبة الإمام وولايته الإلهية جعلت هارون خاضعا ذليلا في حضرته مما جعله يضمن للإمام مبلغ كبير بما يزوج به (ع)الأولاد ويعمر به (ع) الضياع ، ولكن بعد خروج الإمام(ع) من مجلسه ، عاد هارون العباسي إلى نفسه الأمارة بالسوء والى شيطانه فنقض وعده ، لخوفه من تقوية حال أهل الحق وهذا ديدن اللصوص المنافقين والطواغيت المستبدين .
6ـ لم يكن السؤال من جانب الحاكم العباسي من أجل خدمة الإمام(ع)، إنما كان يريد معرفة شيء من أحوال الإمام المعيشية والاقتصادية وغيرها ، وكان مسرورا عندما علم بالحالة الاقتصادية الصعبة للإمام(ع) ، وكان يتمنى بقائها لأنه يجد فيها ضمانه لبقاء حكمه وحكم أولاده لعلمه اليقيني بعدم رضا أهل البيت عن الظلم الفاحش الذي يمارسه حكام بني العباس بحق الرعية .
7ـ بين الإمام(ع) لهارون العباسي بعض الواجبات المترتبة على من يتولى أمور الناس ، وفيها اشارة على ظلم هارون (وأنت أولى من يفعل ذلك)، كونه المتسلط على رقاب المسلمين وعدم تأديته لواجباته اتجاههم، وهذا لايخص هارون فقط بل يخص جميع المسؤولين والرعاة لأمور الناس في كل زمان ومكان .
8 ـ إن الإمام(ع)كان يعلم بأن هارون لن يفي بوعده ونبهه (ع) على هذا الشيء ، والتفت هارون لهذا التنبيه لذلك أكد ثلاث مرات على انه سيفعل ذلك ومع كل ذلك أخلف وعده .
9ـ أعطى هارون الحاكم الظالم درسا لأبنائه وخصوصا المأمون في كيفية التعامل مع أهل هذا البيت المقدس ، وقد نبه الإمام(ع)المأمون بالإحسان إلى أولاده (أي لاتتخذ سلوك أبيك الظالم مع أهل الحق) بعد أن أخبره بأنه سيتولى الحكم ، ولكن هذا الأخير كان امكر وأخبث من أبيه (والذي خبث لا يخرج الانكدا)
10ـ في الرواية تصريح جلي من ندماء المأمون بكثرة الدماء الطاهرة لأهل البيت(ع) التي سفكت على يد الطاغية هارون العباسي واسرته
11ـ هارون العباسي على يقين من كثرة أتباع ومحبي الإمام وان الإمام قادر على استنفار جيش من المقاتلين ، ومع ذلك فان الإمام لا يفعل ذلك ؛ لأن هدف الإمام ليس الحصول على السلطة كما يظن الطواغيت ومنهم هارون العباسي ، إنما هدف الإمام هو نشر السلام والإسلام بين الناس والأخذ بأيديهم نحو التكامل في العلم والأخلاق وحثهم على التسابق نحو مرضات الله والمسارعة إلى مغفرته .. كيف لا اوليس هم سفينة النجاة وأبواب رحمة الله الواسعة ، ومع ذلك فان الطاغية الذي أعماه حب الدنيا وملذاتها يعمل بما يعتقد به من أسباب ماديه لمنع الإمام من القيام بوجه ظلمه وظلم أمثاله من طواغيت ومتجبرين .
12ـ الحرص الشديد من قبل الطاغية هارون العباسي على الحكم مهما كان ، حتى تناقلت الأجيال مقولته المشهورة في ذلك وهي قوله : لو نازعني رسول الله (ص) لأخذت الذي فيه عيناه
لذلك فقد كان متفانيا في حب السلطة وأنه مستعد لانتهاك كل الحرمات من أجلها ، وكان في ذلك مثال سوء وقدوه طالحه لكل الطواغيت والظلمة .
هذا بعض ما يمكن أن يستفاد من هذه الرواية ، إضافة إلى ذلك من المهم الالتفات الى إن هارون العباسي قد ورث من سلفه البغض الشديد لأهل البيت كونهم الورثة الوحيدين لمقام المصطفى الخاتم(صلى الله عليه وآله) ، وان غالبية الناس تميل إليهم بالرغم من كل سياسات الترغيب والترهيب التي مارسها حكام الجور ، وقد أترعت نفس الطاغية العباسي بالحسد والحقد الشديد على العلويين وقد أقسم على استئصالهم وقتلهم فقال:
والله لأقتلنهم ـ أي العلويين ـ ولاقتلن شيعتهم (القرشي عن الأغاني 5/225) فما إن استولى هذا الطاغية على الحكم حتى اصدر مرسوما ملكيا يقضي بإخراج العلويين فورا من بغداد إلى المدينة فقامت السلطات بنفيهم عنها(القرشي عن التمدن الإسلامي 4/47) وقد قتل(وعلى رأى آخر إن المرتكب لهذه الجريمة المنصور الدوانيقي ) منهم في ليلة واحدة ستين شخصا على يد الجزار حميد بن قحطبه (عليه وعلى أمثاله لعنة الله الأبدية) (القرشي عن البحار 11/285ـ286) ومن أعلام العلويين الذين قتلهم هذا الطاغية :ـ
عبد الله بن الحسن بن علي بن زين العابدين(ع)
والعباس بن محمد بن عبد الله بن زين العابدين(ع)
وإدريس بن عبد الله بن بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين(ع) ويحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين(ع)
ومحمد بن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الامام الحسن(ع)
وإسحاق بن الحسن بن زيد بن الحسن علي بن أبي طالب(ع) ... (القرشي عن مقاتل الطالبيين ،وتأريخ الطبري ، وتأريخ ابن الأثير ، ووفيات الأعيان )
وقام اللعين ببذل الأموال الطائله للشعراء من اجل تشويه سمعة أهل البيت(عليهم السلام) ، أمثال:ـ
الشاعر أبان بن عبد الحميد (القرشي عن الأغاني 20/75ـ 76 ) والشاعر مروان بن أبي حفصة (القرشي عن الطبري 3/473)
وقام اللعين بهدم الضريح المقدس لسيد الشهداء أبو عبد الله الحسين(ع) وقطع السدرة التي كانت قرب القبر الشريف (القرشي عن المناقب 2/19 ، والامالي ص206 [وجاء فيها إن يحيى بن المغيرة الرازي قال: كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق ، فسأله جرير عن خبر الناس ، فقال تركت الرشيد ، وقد كرب قبر الحسين (ع) وأمر أن تقطع السدرة فقطعت ، فرفع جرير يديه وقال الله اكبر جاءنا فيه حديث عن رسول الله(ص) انه قال: لعن الله قاطع السدرة ثلاثا ، فلم نقف على معناه حتى الآن ،لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لايقف الناس على قبره ]
رابعاـ بحث الطاغية العباسي عن مسوغات لاعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) ومن ثم قتله
1ـ إضافة إلى ما ذكر أعلاه ( وهو نزر يسير من جرائم هذا الطاغية العباسي) ، فلقد كان يتحين الفرص من اجل التنكيل بزعيم العلويين وسيد المسلمين ، مولانا الإمام الكاظم(ع)
وكان يبحث جاهدا عن الحصول على مسوغ من أجل قتل الإمام أو زجه في السجن ، وغالبا ماتأتي الأذية للمعصومين(ع) والقادة الإلهيين من المحسوبين عليهم نتيجة سوء التصرف أو عدم الالتزام بالكتمان أو الخيانة من أجل حطام الدنيا ......
فقد نقل الشيخ القرشي عن الصباغ في كتابه الفصول المهمة ص252 ، إن البعض ممن باع آخرته بدنياه ، سعى بالإمام (ع) والوشاية به عند الطاغية هارون وانه تجلب له (ع) الأموال (الحقوق الشرعية) من سائر البلدان الإسلامية وانه يسعى للخلافة .......وهذا كان من جملة الأسباب التي دعت هارون العباسي إلى اعتقال الإمام(ع)، وقد نقل الشيخ القرشي (عن :ـ عيون أخبار الرضا ، وغيبة الشيخ الطوسي ، والبحار ، والمناقب ) ، الرواية الاتيه التي تكشف عن بعض ممن سعى بالإمام(ع) وكان في طليعتهم يحيى البرمكي وكان السبب في وشايته ـــ فيما يقول الرواة ـــ هو إن هارون قد جعل ولي عهده محمد بن زبيدة عند جعفر بن محمد بن الأشعث ، فساء ذلك يحيى وأحاطت به هواجس مريرة ، وخاف أن تنقضي دولته ودولة ولده إذا أفضى الأمر إلى محمد ، وان زمام الدولة سيكون بيد جعفر ، وكان يحيى قد عرف ميوله واتجاهه نحو العلويين وانه يذهب إلى إمامة موسى(ع) ، فاختلى به وعرفه بفكرته وان له ميولا نحو العلويين فسر جعفر بذلك وعرفه بفكرته ، ولما علم يحي ذلك منه سعى به إلى الرشيد فتأثر منه ، ولكنه لم يوقع به أي مكروه لأنه تذكر أياديه وجميل أبيه على العباسيين . ودخل جعفر على الرشيد فوسع له في مجلسه ، وجرى بينهما حديث استطابه هارون ، فأمر له بعشرين ألف دينار ، فغضب يحيى ، فلما كان اليوم الثاني دخل عليه فقال له ، ياأمير المؤمنين ، كنت أخبرتك عن جعفر ومذهبه ، فتكذب ذلك ـــ وها هنا أمر فيه الفيصل ـــ قال الرشيد ما هو ؟ قال يحيى : انه لايصل إليه مال من جهة من الجهات إلا أخرج خمسه فوجه به إلى موسى بن جعفر ، ولست اشك في العشرين ألف دينار انه وجه خمسها إليه . قال هارون : إن في هذا لفيصلا .
فأرسل في الوقت خلف جعفر ، فلما انتهى إليه الرسول عرف سعاية يحيى به فلم يشك في إن هارون إنما دعاه في غلس الليل ليقتله ، فأفاض عليه الماء واغتسل غسل الأموات ، واقبل إلى الرشيد فلما وقع بصره عليه وشم منه رائحة الكافور قال له : ماهذا ؟ قال: ياأمير المؤمنين : قد علمت انه قد سعى بي عندك ، فلما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن من أن يكون قد انقدح في نفسك ما يقال علي ، فأرسلت إلي لتقتلني .
قال هارون : كلا ، ولكن قد أخبرت انك تبعث الى موسى بن جعفر من كل ما يصير إليك بخمسه ، وانك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار التي وهبتها لك ، فأحببت أن اعلم ذلك؟
قال جعفر : الله اكبر يا أمير المؤمنين ، تأمر بعض خدمك ليذهب فيأتيك بها بخواتيمها .
فأمر الرشيد بعض خدمه فأتاه بها على ما هي عليه لم يؤخذ منها شيء، فبدا السرور على سحنات وجه وقال له : هذا أول مانعرف كذب من سعى بك إلي ، صدقت ياجعفر انصرف آمنا ، فأني لااقبل فيك قول أحد .
فخجل يحيى وباء بالخزي والخسران ، وازداد غيضه وحنقه وأخذ يعمل جاهدا في إسقاط مكانة جعفر وزوال نعمته ، فرأى أن يسعى بالإمام موسى (ع) ليتوصل بذلك إلى النكاية به ، فقال ليحيى بن أبي مريم : الا تدلني على رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها ؟ فقال له نعم ، ذلك علي بن إسماعيل بن جعفر (وقيل إن الساعي هو محمد بن إسماعيل)، فأرسل خلفه يحيى وكان آنذاك في الحج ، فلما أجتمع به قال له يحيى : اخبرني عن عمك موسى ، وعن شيعته وعن المال الذي يحمل إليه فقال : عندي الخبر ، وحدثه بما يريد ، فطلب منه أن يرحل معه إلى بغداد ليجمع بينه وبين الرشيد فأجابه إلى ذلك فلما سمع الإمام موسى (ع) بسفره مع يحى بعث خلفه فقال(ع) له :
بلغني انك تريد السفر ؟ قال: نعم قال(عليه السلام) :
(إلى أين ؟)، قال: إلى بغداد
قال(عليه السلام) ما تصنع ، قال: علي دين وأنا مملق
قال (عليه السلام) أنا أقضي دينك ، وأكفيك أمورك .
فلم يلتفت إلى الإمام ووسوست له نفسه وأجاب داعي الهوى فترك الإمام وقام من عنده، فقال(عليه السلام) له : لاتؤتم أولادي، ثم أمر (عليه السلام) له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم
وقال(عليه السلام) : والله ليسعي في دمي ويؤتم أولادي
فقال له أصحابه ، جعلنا الله فداك ، فأنت تعلم هذا من حاله ، وتعطيه ؟ فقال (ع): نعم حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله(ص) انه قال: إن الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها الله
وخرج علي يطوي البيداء حتى انتهى إلى بغداد ، فدخل على الرشيد فقال له بعد السلام عليه .
ما ظننت إن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلم عليه بالخلافة .
وقيل : انه قال له : إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب ، وان له بيوت أموال ، وانه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار ، وسماها (البسرية) فلما سمع ذلك الرشيد فقد صوابه وأحرقه الغيض ، وأمر لعلي بمائتي ألف درهم على أن يستحصلها من بعض نواحي المشرق فمضت الرسل لجباية المال إليه فدخل بيت الخلاء فزحر فيه وسقطت أمعاؤه فأخرج منها وهو يعاني آلام الموت ، فقيل له : إن الأموال قد وصلتك ، فقال : ما أصنع بها وقد أتاني الموت ، وقيل انه رجع إلى داره فهلك فيها في تلك الليلة التي اجتمع بها مع هارون
2ـ نقل الشيخ القرشي عن كتاب تذكرة الخواص ص359 ، إن من الأسباب التي دعت هارون العباسي إلى اعتقال الإمام هو احتجاج الإمام(عليه السلام) بأنه أولى من هارون ومن غيره بالنبي(صلى الله عليه وآله) وكان هذا الاحتجاج قرب الضريح المقدس للمصطفى الخاتم (ص) وأمام الأشراف وقادة الجيش وكبار موظفي الدولة العباسية وقيل إن هذه الحادثة جرت كما يلي :
اقبل هارون العباسي بوجهه إلى الضريح المقدس وسلم على النبي(صلى الله عليه وآله)قائلا: السلام عليك يا بن العم ، معتزا بذلك على من سواه ، وكان الإمام(ع) حاضرا فسلم على النبي(صلى الله عليه وآله ) قائلا : (السلام عليك يا أبت )
ففقد هارون صوابه واستولت عليه موجات من الاستياء ...فاندفع قائلا بنبرات تقطر غضبا : لم قلت انك أقرب إلى رسول الله (ص) منا ؟ فأجابه(عليه السلام) : ( لو بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيا وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك ؟
فقال هارون : سبحان الله وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم .
فانبرى الإمام (ع) ، يبين له الوجه في قربه من النبي (ص) دونه قائلا : ( لكنه لايخطب مني ولا أزوجه لأنه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم ) ، وقال الإمام(ع)أيضا : ( هل يجوز له أن يدخل على حرمك وهن مكشفات ؟ )، فقال هارون: لا
فقال الإمام(ع) : ( لكن له أن يدخل على حرمي ويجوز له ذلك فلذلك نحن أقرب إليه منكم ) [ونقل الشيخ القرشي في الهامش عن كتاب أخبار الدول ص113 ، وعن وفيات الأعيان : 1/ 394 ، وفي كتاب مرآة الجنان : 1/395 ، إن الإمام (ع) لما سلم على النبي (ص) بقوله ـــ ياأبت ـــ ، تغير وجه هارون ولم يطق جوابا ، وقال:ـ (هذا هو الفخر حقا ياأبا الحسن) ، وجاء في كتاب (الإتحاف بحب الأشراف ص55 ) إن هارون بعد ما سمع كلام الإمام(ع) ودليله على القرب من النبي(ص) قال له (ع ) ( لله درك إن العلم شجرة نبتت في صدوركم فكان لكم ثمرها ولغيركم الأوراق) ، وقيل انه بعد هذه الحادثة أمر الطاغية العباسي باعتقال الإمام(ع) وزجه في السجن
ثالثا ـ نقل الشيخ القرشي عن كتاب المناقب :2/381
إن من الأسباب التي دعت هارون العباسي إلى الاعتقال ، هو تعين الإمام(ع) لحدود فدك ، فقد سأل هارون عنها ليرجعها إليه ، فأبى (ع) أن يأخذها إلا بحدودها ، فقال هارون : ما حدودها ؟ فقال(عليه السلام) : ( إن حددتها لم تردها )
فأصر هارون عليه أن يبينها له قائلا : بحق جدك إلا فعلت
فقال له الإمام(عليه السلام) : أما الحد الأول فعدن
فلما سمع هارون ذلك تغير وجهه ،واستمر الإمام (عليه السلام) في بيانه قائلا: و الحد الثاني سمر قند
فأربد وجه الطاغية ...ولكن الإمام(عليه السلام) لم يعتن به فقد اخذ يستمر في بيانه قائلا : والحد الثالث أفريقيا
فاسود وجه هارون وقال:هيه ،وانطلق الإمام يبين الحد الأخير قائلا : والحد الرابع فسيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيه.
فثار الرشيد ، وقال: لم يبق لنا شيء
قال(عليه السلام) :
قد علمت انك لا تردها
وفي هذا اشارة من الإمام (ع) بحدود الخلافة المغصوبة من هؤلاء الطواغيت
رابعا ـ نقل الشيخ القرشي عن كتاب البحار ج11 ص 279 ، ان صلابة مواقف الإمام(عليه السلام) اتجاه السلطة العباسية كانت احد أسباب الاعتقال
فبالرغم من التقية التي انتهجها أهل البيت(ع) للمحافظة على الشريعة وأهلها إلا انه جرت أحداث وحوادث كثيرة بين من خلالها المعصومين (ع) بعض الحقائق التي فيها المصالح المهمة والضرورية للدين وان كانت هذه الحقائق تؤدي إلى غضب الطواغيت ونقمتهم ، إلا إن هذا كان غير مهم (فالمعصومين(ع)هم سادة الناطقين ومن المهم الالتفات إلى إن الناطقية لها صور متعددة) فقد حَرَّم الإمام الكاظم(عليه السلام) التعاون مع السلطة الجائرة باي شكل من الاشكال ... حتى لو كان كري الجمال لأداء فريضة الحج ، كما حدث لصاحبه صفوان الجمال الذي كان قد كري جماله لهارون لحج بيت الله الحرام
فاضطر صفوان لبيع جماله ، وكان هارون يفهم ذلك ، فمليء قلبه بالحقد على صفوان وهم بقتله
وكذلك مَنَعَ الإمام(عليه السلام) زياد بن أبي سلمه من وظيفته
وقد شاعت في الأوساط الاسلاميه حكم الإمام بحرمة الولاية من قبل هارون وأضرابه من الحكام الجائرين ، وفي يوم من الأيام دخل الإمام(ع)على هارون وهوفي احد قصوره الفخمة وقد أسكرته نشوة الحكم قائلا : ما هذه الدار ؟
فأجابه الإمام(ع) : هذه دار الفاسقين ، قال الله تعالى (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وان يروا سبيل الرشد لايتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا )
فقال هارون: دار من هي؟ ، قال الإمام(ع):
هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة
قال هارون : فما بال صاحب هذه الدار لايأخذها
قال الإمام(ع) : أخذت منه عامره ولا يأخذها الامعمورة
قال هارون : أين شيعتك ؟ فتلى الإمام (ع) قوله تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) فثار هارون وقال بصوت يقطر غضبا : انحن كفار ؟
قال الإمام(ع) : لا ، ولكن كما قال الله تعالى (الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار)
فغضب هارون وأغلظ في كلامه مع الإمام(ع) .
خامساـ
عزم الطاغية العباسي على ايداع امامنا الكاظم(عليه السلام) في غياهب السجن ومن ثم القيام بجريمة قتله(عليه السلام)
إضافة إلى ماذكر في القسم الأول من هذا البحث وغيره من الأمور مثل:ـ
انتشار مناقب الإمام الكاظم(عليه السلام) وذيوع فضله وتحدث الناس عن مآثره أدى إلى أن يضيق صدر الطاغية العباسي ويعزم على اعتقال الإمام (ع) وجاء بنفسه الخبيثة إلى المدينة المنورة وقصد القبر المقدس للمصطفى(ص) وخاطبه (أمام عامة الناس وخاصتهم) قائلا:
بأبي أنت وأمي يارسول الله ، إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه إني أريد أن آخذ موسى بن جعفر (ع) فأحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حربا يسفك فيها دمائهم
(القرشي عن البحار17/296، ونقل السيد هاشم الحسني خبر عن الشيخ المفيد ، بنفس المضمون مع اختلاف بعض الالفاض )
ومن خلال هذه الرواية يتبين مدى الدهاء والمكر العظيم الذي يمتلكه هذا الطاغية العباسي ، فلقد كان يبتغي من حركته هذه عدة أمور ، منها:
ا ـ أن يظهر للناس مدى احترامه لمقام المصطفى (صلى الله عليه وآله) جد الإمام(عليه السلام) ، ومدى التزامه بالشرع .
ب ـ أن يسمع الناس عن سبب اعتقال ابن النبي(صلى الله عليه وآله)، وانه يخاف على الأمة من أن تسفك دمائها(وكأنه لم يسبح في دماء الأبرياء) ، وهذا يكشف عن اعتقاده بان الظلم الذي وصل إليه سوف يجعل الإمام(عليه السلام)لا يتوانى من الخروج عليه
ج ـ اظهر للناس نية الحبس وأبطن نية القتل وهذا ديدن الطواغيت عامة في مسلسل جرائمهم....
سادسا ـ
اصدار امر القاء القبض ضد الامام(عليه السلام)وتسفيره الى سجن البصرة
بعد يوم من وصول الطاغية العباسي الى مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أي في اليوم الثاني اصدر أوامره بإلقاء القبض على الإمام ، فألقت الشرطة عليه القبض وهو قائم يصلي لربه عند رأس جده النبي(صلى الله عليه وآله) فقطعوا صلاته ولم يمهلوه من إتمامها فقيدوه وحملوه من ذلك المكان الشريف ، فتوجه الإمام(عليه السلام) إلى جده(صلى الله عليه وآله) قائلا:
إليك أشكو يا رسول الله (القرشي عن المناقب :2/385)
واقتادوا الإمام(ع) إلى الطاغية العباسي فلما مثل عنده جفاه وأغلظ له القول ، وذلك في سنة 179هجريه في شهر شوال لعشر بقين منه (القرشي عن البحار 11/296)(نقل السيد هاشم الحسني في سيرته عن ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص : ان مجيء هارون كان في سنة 170هجري بعد مضي ست أو سبع سنوات من ملكه)
وخاف الرشيد من حدوث الاضطرابات ، فأمر بتهيئة قبتين فأوعز بحمل احديهما إلى الكوفة والأخرى إلى البصرة ؛ ليوهم على الناس أمر الإمام(ع) ويخفي عليهم خبر اعتقاله في أي مكان
وأمر بحمل الإمام(ع) إلى البصرة في غلس الليل البهيم ووكل حسان السروي بحراسته والمحافظة عليه(القرشي عن البحار 11/298) وقبل أن يصل مولانا الكاظم (عليه السلام)إلى البصرة تشرف بالمثول بين يديه عبد الله بن مرحوم الازدي فدفع له الإمام(ع) كتبا وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا(ع) وعرفه بأنه الإمام من بعده(القرشي عن تنقيح المقال)
1ـ سجن البصرة
سارت القافلة تطوي البيداء حتى انتهت إلى البصرة وذلك قبل التروية بيوم (القرشي عن البحار، منتخب التواريخ 518)
فأخذ حسان الإمام الكاظم(عليه السلام) وسلمه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ، وكان واليا على ألبصره يوم ذاك ، فحبسه في بيت من بيوت المحبس وأقفل عليه أبواب السجن ، فكان لايفتحها إلا في حالتين :ـ
أحداهما في خروجه إلى الطهور والأخرى لإدخال الطعام له(القرشي عن البحار)
وقال الإمام(ع):
[اللهم انك تعلم إني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ،اللهم وقد فعلت فلك الحمد]
(القرشي عن المناقب 2/379)(ونقل السيد هاشم إن بعض الروايات ذكرت إن بعض عيون عيسى سمعوا هذا الدعاء من الإمام(ع) ونقلوه الى عيسى )
وهذا الكلام المعصوم من الإمام(ع)يدل على تسليمه المطلق لأوامر الله تعالى ، ورضاه بقضائه ومدى حبه لمعبوده .
وشاع اعتقال الإمام(ع)في البصرة ، فقام البعض من علماؤها ورواة الحديث فيها بالاتصال بالإمام(ع)من طريق خفي ، وقد روو عنه بعض العلوم والأحكام ، ومن هؤلاء المتصلين بالإمام(ع) ياسين الزياتي (القرشي عن النجاشي ص352)
وضج أهل البصرة من هذا الاعتقال الظالم مما دعا هارون بالإيعاز لعيسى باغتيال الإمام ، وذلك بعد سنة من سجن الإمام(ع) وعند ورود الأمر لعيسى قام الأخير بجمع خواصه وثقاته وعرض عليهم هذا الأمر فنصحوه بعدم ارتكاب هذه الجريمة فاستصوب رأيهم وكتب إلى هارون رسالة يطلب فيها إعفاءه عن ذلك وهذا نصها (القرشي عن البحار ، الفصول المهمة)(ونقل السيد هاشم الرسالة بنفس المضمون مع تغيير بعض الألفاظ)
: يا أمير المؤمنين ، كتبت إلي في هذا الرجل ، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عينا عليه ، لينظروا حيلته ، وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية ، ويجري من الإنسان مجرى الدم ، فلم يكن منه سوء قط ، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير ، ولم يكن عنده تطلع إلى ولاية ، ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا ، ولا دعا قط على أمير المؤمنين ، ولا على أحد من الناس ، ولا يدعوا إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة ، فأن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره ، أو ينفذ من يتسلمه مني وإلا سرحت سبيله فاني منه في غاية الحرج(انتهى)
ويمكن الاستفادة من هذه الرسالة عدة نقاط مهمة وهي:ـ
1ـ قيام الطاغية هارون بتلفيق الأكاذيب الكثيرة عن الإمام(ع) وإلقائها في أذهان الناس وخاصة أعضاء حكومته ومنهم عيسى بن أبي جعفر ، ومن هذه الأكاذيب :
إن الإمام(ع) يتطلع إلى الولاية وينوي الخروج على السلطة الحاكمة ، ومنها انه (ع ) ينوي الشر بالمسلمين...
2ـ بعد إن أطلع بعض الناس الموجودين في سجن البصره من سجناء وسجانين على أحوال الإمام(ع) وأنه(ع) مثال للعبادة والأخلاق المحمدية الأصيلة ، حتى وصل الأمر بعيسى أن يعلن صراحة للحاكم انه في حرج كبير من جانب الإمام(ع) ، بل انه سيطلق سراح الإمام(ع)،إذا لم يعفيه هارون من أمر الاغتيال ، أو لم يبعث إليه من يتسلمه منه ، لذا قرر الطاغية العباسي أن يبعث إلى عيسى بجلب الإمام إلى بغداد(وقيل بعث إليه من يتسلمه منه)، وبعد هذه الحادثة قرر الطاغية العباسي بعدم وضع الإمام في أي سجن عام ، لعزل الإمام(ع)بالكامل عن الناس ومنعهم من التزود من فضائله الشريفة من جهة ومن جهة أخرى التعتيم على الجرائم البشعة التي ترتكبها السلطة الحاكمة بحق العترة الطاهرة ومنهم مولانا باب الحوائج(ع)
3 ـ تكشف هذه الرسالة عن نفسية عيسى بن أبي جعفر فبالرغم من انه من أفراد النظام الحاكم إلا انه :ـ
اـ كان لديه شيء من الإنصاف ونقل الحقيقة لهارون مثل ما هي ولم يلفق الأكاذيب على الإمام(ع) تملقا للحاكم كما يفعل غالبية أزلام الطواغيت الفجرة .
ب ـ كان عيسى محل ثقة عند هارون ولذلك أرسل إليه الإمام(ع) ليحبسه ، ومع ذلك كان عيسى يتحرج من تنفيذ كل ما يطلبه الحاكم ، على العكس من غالبية أزلام الطواغيت فأنهم ينفذون مايريده الطاغية وزيادة وان خالف واضحات الحقائق
ج ـ قيام عيسى بمشاورة خواصه وثقاته وطرح عليهم الأمر وعندما نصحوه بعدم الاغتيال امتثل لنصحهم ، بالرغم من مخالفته لطاغية زمانه ، وهذه خصلة حسنة ، وكذلك يتبين إن ثقاته كانوا على شاكلته .
2ـ السجن الثاني
تم حمل الإمام(عليه السلام) من سجن البصرة الى بغداد مقيدا تحف به الشرطة والحراس ، ولما انتهى إلى بغداد أمر هارون باعتقاله في بيت الفضل ابن الربيع بن يونس ، وبعد فترة من سجن الإمام(ع) في بيت الفضل بن الربيع ، بهر الفضل من عبادة الإمام(ع) فقد روي(القرشي عن عيون الأخبار ،البحار) عن عبد الله القزويني انه قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح داره ، فقال لي أدن مني ، فدنوت منه حتى حاذيته فقال لي :
اشرف على الدار ، فأشرف عبد الله على الدار ، فقال له الفضل : ماترى في البيت ، قال:
أرى ثوبا مطروحا قال له : انظر حسنا ، فتأمل عبد الله في نظره ، فقال : رجل ساجد ، قال له : هل تعرفه ، قال: لا، قال له : هذا مولاك ، قال: من مولاي ، قال له : تتجاهل علي ؟ قال: ماأتجاهل ولكن لاعرف لي مولى ، قال له : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر ، وأخذ الفضل يحدث عبد الله عن عبادة الإمام(ع) وطاعته لله قائلا: إني أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها انه يصلي الفجر ، فيعقب ساعة في دبر صلاته إلى إن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتى تزول الشمس ، وقد وكل من يترصد له الزوال ، فلست ادري متى يقول الغلام قد زالت الشمس ؟ إذ يثبت فيبتديء بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء ، فأعلم انه لم ينم في سجوده ولا أغفى ، فلا يزال كذلك إلا إن يفرغ من صلاة العصر ، فإذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجدا إلى أن تغيب الشمس ، فإذا غابت وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثا ، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة فإذا صلى العتمة أفطر على شوى (تصغير شواء أي شواء قليل) يؤتى به ثم يجدد الوضوء ، ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومه خفيفة ، ثم يقوم فيجدد الوضوء ، ثم يقوم ، فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست أدري متى يقول الغلام أن الفجر قد طلع ؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حول إلي..
ولما رأى عبد الله أكبار الفضل للإمام(ع) حذره من أن يستجيب لداعي الهوى فينفذ رغبة هارون باغتياله ، فقال له :
اتق الله ، ولا تحدث في أمره حدا يكون منه زوال النعمة ، فقد تعلم انه لم يفعل أحد بأحد سوءا إلا كانت نعمته زائلة..
فقال الفضل: قد أرسلوا إلي غير مرة يأمرونني بقتله ، فلم أجبهم إلى ذلك ، وأعلمتهم إني لاأفعل ذلك ، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني..
وكان الطاغية العباسي شديد المراقبة للإمام(ع) فقد زرع العيون لمراقبته(ع) خوفا من أن يتصل به أحد المؤمنين أو أن يخفف عنه الفضل ، وإضافة إلى ذلك كان اللعين العباسي يراقب بنفسه البيت من أعلى قصره وكان في كل مرة يرى ثوبا مطروحا على الأرض في مكان خاص لم يتغير عن موضعه ، فقال للفضل : ماذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟
فقال الفضل : ياأمير المؤمنين ، ما ذاك بثوب ، وإنما هو موسى بن جعفر له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال ، فبهر هارون ، وقال:
أما إن هذا من رهبان بني هاشم ، والتفت إليه الربيع بعد ما سمع منه اعترافه بزهد الإمام(ع) قائلا له: ياأمير المؤمنين مالك قد ضيقت عليه بالحبس؟
فأجابه هارون بما انطوت عليه نفسه من الشر وفقدان الرأفة قائلا: هيهات لابد من ذلك .
3ـ اطلاق سراح الامام (عليه السلام)
ولما طال الحبس بالإمام(ع) ، قام (ع) في غلس الليل البهيم فجدد طهوره وصلا لربه أربع ركعات وأخذ يناجي الله ويدعوه بهذا الدعاء(القرشي عن المناقب 2/370، عيون الأخبار):
ياسيدي نجني من سجن هارون ، وخلصني من يده ، يامخلص الشجر من بين رمل وطين ، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر ، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء ، خلصني من يد هارون.
وبعد هذا الدعاء تم إطلاق سراح الإمام(ع)
(القرشي عن مروج الذهب 3/265 ، وجاء في المناقب 2/370 إن الإمام(ع) رفض الهدايا والخلع التي قدمت إليه )
حدث عبد الله بن مالك الخزاعي ، وكان على دار الرشيد وشرطته ، قال : أتاني رسول الرشيد في ما جاءني فيه قط ، فانتزعني من موضعي ، ومنعني من تغيير ثيابي ، فراعني ذلك ، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم ، فعرف الرشيد خبري ، فأذن لي في الدخول ، فدخلت ، فوجدته جالسا على فراشه ، فسلمت ، فسكت ساعة ، فطار عقلي ، وتضاعف جزعي ، ثم قال لي :
ياعبد الله أتدري لم طلبتك في هذا الوقت ؟ فقلت له : لا والله ياأمير المؤمنين ،قال هارون : إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشيا قد أتاني ، ومعه حربة فقال : إن لم تخل عن موسى بن جعفر الساعة ، وإلا نحرتك بهذه الحربة ، اذهب فخل عنه ، ولم يطمئن عبد الله بأمر هارون بإطلاق سراح الإمام(ع) ،فقال له : أطلق موسى بن جعفر ؟ قال له ذلك ثلاث مرات ، فقال هارون : نعم ،امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر ، وأعطه ثلاثين ألف درهم ، وقل له إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب ، وان أحببت المضي إلى المدينة فالإذن في ذلك إليك .
ومضى عبد الله مسرعا إلى السجن وقال :
لما دخلت وثب الإمام (ع) ، وظن أني قد أمرت فيه بمكروه (وهذا ما توهم به عبد الله )، فقلت له : لا تخف ، قد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك وأن ادفع إليك ثلاثين ألف درهم ، وهو يقول لك : إن أحببت المقام قبلنا فلك ماتحب ، وان أحببت الانصراف فالأمر في ذلك مطلق لك ، وأعطيته الثلاثين ألف درهم وقلت له : لقد رأيت من أمرك عجبا ، وأخذ الإمام (ع)يحدثه عن السبب في إطلاق سراحه قائلا (القرشي عن وفيات الأعيان 4/394 ، شذرات الذهب 1/304) :
بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله (ص) فقال لي ياموسى ، حبست مظلوما قل هذه الكلمات فانك لاتبيت هذه ألليله في الحبس ، فقلت له :
بابي أنت وأمي ما أقول ، فقال : قل: يا سامع كل صوت ، ويا سابق الفوت ، ويا كاسي العظام لحما ، ومنشرها بعد الموت أسألك بأسمائك الحسنى ، وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين ، ياحليما ذا أناة لايقوى على أناته ، ياذا المعروف الذي لاينقطع أبدا ، ولا يحصى عددا ، فرج عني .
فكان ما ترى
وأفرج عن الإمام(ع)وبقي الإمام(ع) في بغداد بعد خروجه من سجن هارون وقال السيد مير على الهندي(القرشي عن مختصر تأريخ العرب ص209) (وقد حدث مرتين أن سمح الرشيد لهذا الإمام الوديع بالرجوع إلى الحجاز ولكن شكوكه كانت في كلتا المرتين تتغلب على طيبة قلبه فيبقيه في الحبس )
وأسأل الله المغفرة للسيد الهندي، فأين هارون من طيبة القلب ، ثم إن صريح الروايات تؤكد إن هارون أطلق سراح الإمام(ع) مرغما خائفا ، بعد ما رأى ما رأى ، إضافة إلى إن هارون ليس لديه شكوك مع الإمام (ع) بل هو يعتقد يقينا بأن الإمام(ع) خليفة رسول الله (ص) وأنه أفضل الخلق في زمانه ، وأن مسند ألخلافه من ارث الإمام(ع) ، وان الناس على اختلاف مشاربهم مجتمعين على فضله ويميلون إليه وهذا ماقض مضجع هارون وسلبه سعادة سلطانه فمثل هذه النفس الشريرة لاتطمئن إلا بقتل الإمام(ع) أو إيداعه السجن الخاص أو فرض الإقامة الجبرية عليه حين لا يجد سبيل للقتل أو السجن .
المهم إن الإمام (ع) أطلق سراحه والتقت به الناس لينهلوا من هذا الماء الإلهي العذب المعين ، ومن الذين اهتدوا على يد الإمام في هذه الفترة بشر الحافي ، وكان الإمام(ع) يدخل على هارون في كل أسبوع مرة وذلك في يوم الخميس (القرشي عن البحار)
(وهذه الزيارات غير بعيد من إن هارون هو من طلبها وحددها بهذا اليوم لزيادة التضييق على الإمام(ع)) وتشفع الإمام(ع) في قضاء الكثير من حوائج الناس التي عطلها هارون، وقلب الله مكر هارون إلى خير وبركة على أهل بغداد، وزوارها (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وتعرف الناس أكثر على الإمام(ع) ، وتزودوا من هذه الحوزة الناطقة الشريفة مايعينهم على أمر الدين والدنيا والآخرة ، وكان هارون يبحث عن حجج لإدانة الإمام(ع) ، فقال له (القرشي عن البحار 11/280) في بعض الأيام : أتقولون إن الخمس لكم . قال الإمام(ع) : نعم ، قال هارون : انه كثير ، قال الإمام(ع) : إن الذي أعطاه لنا علم انه غير كثير .
وفي ذات يوم اصدر هارون بحضرة الإمام(ع) حكما (القرشي عن الوسائل ــ باب الأمر بالمعروف)
على رجل ارتكب جرما بان يضرب ثلاثة حدود فنهاه الإمام(ع) وقال له : إنما تغضب لله فلا تغضب له أكثر مما غضب لنفسه .
وطلب الإمام(ع) يوما من هارون أن يسمح له بالرحيل إلى يثرب لرؤية عياله وأطفاله وذكر الشيخ ألمجلسي (القرشي عن البحار 11/269)خبرين في ذلك :ـ خبر يذكر بأن هارون أذن له بذلك ، وخبر آخر يؤكد عدم موافقة هارون بل انه قال للإمام(ع)(انظر في ذلك ، ولم يجبه إلى شيء حتى حبسه عند السندي بن شاهك(لعنه الله))وقد عزم الطاغية في أحد الأيام على قتل الإمام الاانه رأى البرهان الإلهي فعدل عن ذلك ، فقد حدث الفضل قال :
كنت حاجبا عند الرشيد ، فاقبل على يوما وهو غضبان وبيده سيف يقلبه فقال لي: بقرابتي من رسول الله لئن لم تأتني بابن عمي ، لأخذت الذي فيه عيناك ، فخاف الفضل ومشت الرعدة في أوصاله وقال له بمن أجيئك ، قال هارون بهذا الحجازي ، قال الفضل :ـ وأي الحجازيين ، قال هارون :ـ موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع) ، فخاف الفضل من نقمة هارون وبطشه به فاستجاب لأمره وطلب من أن يحضر سوطين ، وهسارين وجلادين ، فأحضر ذلك ، قال :ـ ومضيت إلى منزل أبي إبراهيم فأتيت إلى خربه فيها كوخ من جريد النخل ، وإذا بغلام أسود ، فقلت له استأذن لي على مولاك ، يرحمك الله ، فقال لي لج ، فليس له حاجب ، ولا بواب فولجت إليه فإذا بغلام اسود بيده مقص يأخذ اللحم من جبينه وعرنين انفه من كثرة سجوده ، فسلمت عليه وقلت :ـ اجب الرشيد ، فقال الإمام(ع) ماللرشيد ، وما لي أما تشغله نعمته عني ؟ ووثب مسرعا وهو يقول :
لولا إني سمعت في خبر عن جدي رسول الله (ص) إن طاعة السلطان للتقية واجبة ، ماجئت ، وأنطلق(ع) مع الفضل
فقال له : استعد للعقوبة ياأبا إبراهيم فقال الإمام(ع) :
أليس معي من يملك الدنيا والآخرة ، ولن يقدر اليوم على سوء بي إنشاء الله ، قال الفضل : رأيت الإمام (ع) وقد أدار يده يلوح بها على رأسه الشريف ثلاث مرات ، ولما وصل الفضل استقبله الرشيد وهو مذهول قد استولى عليه الخوف والذعر فقال له يا فضل ، قال الفضل : لبيك ، فقال هارون : جئتني بابن عمي ، قال الفضل : نعم ، فقال هارون : لاتكن أزعجته ؟ فقال الفضل :ـ لا، فقال هارون : لم تعلمه إني عليه غضبان ، فأني قد هيجت على نفسي مالم أرده ائذن له بالدخول ، ودخل الإمام(ع) فلما رآه وثب إليه قائما وعانقه وقال له : مرحبا بابن عمي وأخي ووارثي مالذي قطعك عن زيارتنا ؟ فأجابه الإمام(ع) :
سعة ملكك وحبك للدنيا ، وأمر الرشيد أن يأتي بغاليه ، فأتى بها ، فطيب الإمام(ع) بيده وأمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان ودنانير ، فقال الإمام(ع) لولا إني أرى أن أزوج بها من عزاب بني أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلتها وانصرف(ع) وهو يقول الحمد لله رب العالمين ، والتفت هارون الى الفضل قائلا له: يا فضل انك لما مضيت لتجيئني به رأيت أقواما قد أحدقوا بداري بأيديهم حراب قد أغرسوها في أصل الدار يقولون إن آذى ابن رسول الله خسفنا به وبداره الأرض وان أحسن إليه انصرفنا عنه وتركناه . وانطلق الفضل مسرعا نحو الإمام(ع) قائلا له:ـ مالذي قلت حتى كفيت أمر الرشيد ؟ قال الإمام(ع)(القرشي عن عيون الأخبار،البحار) :ـ دعاء جدي علي بن أبي طالب (ع) كان إذا دعا به مابرز الى عسكر إلا هزمه ولا الى فارس إلا قهره ، وهو دعاء كفاية البلاء وهو:
(اللهم بك أساور وبك أحاول وبك أجاور وبك أصول وبك انتصر وبك أموت وبك أحيا ، أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، اللهم انك خلقتني ورزقتني وسترتني عن العباد بلطف ما خولتني أغنيتني ، فإذا هويت رددتني ، وإذا عثرت قومتني وإذا مرضت شفيتني وإذا دعوت أجبتني ياسيدي :ارض عني فقد أرضيتني )
4ـ السجن الثالث
كان تأثير هذه المعجزات والكرامات على هارون تأثير وقتي وذلك لخبث سريرته وركونه لشيطان الهوى ، فما لبث بعد فترة قصيرة ،أن أمر باعتقال الإمام(ع) وإيداعه في بيت الفضل بن يحيى بن خالد البر مكي، ولكن الأخير لم يضيق على الإمام(ع)بل على العكس ، امتنع عن تنفيذ رغبات الطاغية العباسي ، وانطلق بعض الأوغاد الى هارون وأخبروه بترفيه الفضل على الإمام(ع) وكان آنذاك في الرقة(نقل السيد هاشم في سيرته انه عندما أوصلت العيون بان الفضل بن يحيى قد أوسع على الإمام(ع) كتب هارون إليه كتابا ينكر عليه توسعته على الإمام(ع) وأمره بقتله فرفض يحيى تنفيذ الأمر، فاغتاظ هارون ودعا مسرور.....) فأنفذ في الوقت مسرور الخادم الى بغداد ليكشف له حقيقة الحال ، فان كان الأمر على مابلغه مضى الى العباس بن محمد وأوصله رسالة يأمره فيها بجلد الفضل ، وكذلك أمره بالوصول الى السندي بن شاهك مدير شرطته ليكون منفذا لأوامره ،وقدم مسرور الى بغداد فنزل دار الفضل بن يحيى لايدري احد مايريده ، ثم دخل على الإمام موسى(ع) فوجده مرفها عليه كما بلغ هارون فمضى من فوره الى العباس وأمره بتنفيذ أمر هارون ، وكذلك سار الى السندي فأمره بإطاعة العباس ، وأرسل العباس بالفور الشرطة الى الفضل فأخرجوه من داره وهو يهرول والناس من حوله ،فدخل الى العباس فأمر بتجريده ،ثم ضربه مائة سوط ، وخرج الفضل متغيرا ، قد انهارت قواه وأعصابه ، فجعل يسلم على الناس يمينا وشمالا وهو لايشعر بذلك ، وكتب مسرور الى الطاغية بما فعله ، فأمره بأخذ الإمام(ع) واعتقاله عند السندي بن شاهك ، وجلس الطاغية مجلسا حافلا ضم جمهورا غفيرا من الناس ، فرفع صوته قائلا أيها الناس إن الفضل بن يحى قد عصاني ، وخالف طاعتي ، ورأيت أن العنه فالعنوه ، فارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل باللعن والسباب والشتم على الفضل حتى اهتزت الأرض من أصوات اللعن ، وبلغ يحيى بن خالد البر مكي ذلك فأسرع الى هارون فدخل عليه من غير الباب الذي يدخل منه الناس ، حتى جاءه من خلفه فأسره قائلا :ـ (ياأمير المؤمنين إن الفضل قد حدث وأنا أكفيك ماتريد) فسر هارون بذلك ، وظهر السرور على وجهه ، وذهب عن نفسه ما يحمله من الحقد على الفضل ، فأراد يحيى أن يستعيد كيان ولده ورد له كرامته فقال لهارون:ـ ياأمير المؤمنين ، قد غضضت من الفضل بلعنك إياه ، فشرفه بإزالة ذلك ، واقبل هارون بوجهه على الناس ، فرفع عقيرته قائلا :ـ إن الفضل قد عصاني في شيء فلعنته ، وقد تاب وأناب الى طاعتي فتولوه، وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل وهي تعلن التأييد الشامل لتلك السياسة المتناقضة قائلين:ـ ياأمير المؤمنين ، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ، وقد توليناه(القرشي عن مقاتل الطالبيين ص 503ـ504) والظاهر إن فترة سجن الإمام(ع) عند الفضل بن يحى بن خالد كانت قصيرة .
5ـ السجن الأخير
وأخيرا بعد هذا الصراع الطويل وجد اللعين العباسي من ينفذ أوامره بالحرف الواحد، وهو السندي بن شاهك مولى أبو جعفر الدوانيقي ، فبعد خروج يحيى بن خالد البر مكي الى بغداد ماج الناس وأرجفوا بكل شيء واظهروا انه جاء لتعديل السواد والنظر في أمر العمال وتشاغل بذلك أياما ، ثم دعا السندي بن شاهك فأمره باعتقال الإمام وحبسه في المحبس المعروف بدار المسيب قرب باب الكوفة (منطقة الو شاش حاليا في كرخ بغداد) (وقيل إن محل الحبس في نفس دار السندي)(القرشي عن البحار 11/300) وأمر هارون السندي بأن يضيق على الإمام وان يقيده بثلاثين رطل من الحديد ،ويقفل الباب في وجهه ، ولا يدعه يخرج إلا للوضوء (القرشي عن الهداية للحسين بن حمدان) وامتثل الأخير لكل الأوامر ووكل بشار مولاه بمحافظته وكان بشار شديد البغض لال أبي طالب ولكن بعد فترة وببركة الإمام تغير حاله واهتدى الى طريق الحق (القرشي عن البحار 11/305) لكن السندي لم يرعى أي حرمة للإمام(ع) ، فقد حدث أبو الأزهر ابن ناصح البرجحي ، قال اجتمعت مع ابن السكيت أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ألدورقي النحوي في مسجد يقع بالقرب من دار ألسندي ، فدارت بيننا مذاكرة في علم العربية ، وكان في الجامع رجل لانعرفه فالتفت إلينا قائلا :ـ ياهؤلاء ،انتم الى إقامة دينكم أحوج منكم الى إقامة ألسنتكم ، واخذ الرجل يدلي علينا بالأدلة الوافرة على ضرورة الإمامة ، ثم قال :ـ ليس بينكم وبين إمام العصر غير هذا الجدار ـ وأشار الى جدار السندي ، فقيل له :ـ لعلك تعني هذا المحبوس ، قال نعم يقول أبو الأزهر :ـ فعرفنا الرجل من الشيعة ، وانه يذهب للإمامة ، فقلنا له قد سترنا عليك ، وطلبنا منه أن يذهب عنا لئلا نبتلي بسببه ، فانبرى الرجل لنا وقال :ـ والله لايفعلون ذلك أبدا ، والله ماقلت لكم إلا بأمره ، وانه ليرانا ويسمع كلامنا ، ولو شاء أن يكون ثالثنا لكان ، يقول أبو الأزهر :ـ وفي أثناء الحديث دخل علينا رجل من باب المسجد تكاد العقول أن تذهب لهيبته ووقاره ، فعلمنا انه الإمام موسى بن جعفر (ع) فبادرنا قائلا :ـ إن ذلك الرجل الذي حدثكم عني صاحبي وفي الوقت أقبل السندي ومعه جماعه من شرطته فقال للإمام(ع) بغير حياء ولا خجل :ـ ياويحك كم تخرج بسحرك وحيلتك من وراء الأبواب والإغلاق فلو كنت هربت كان أحب إلي من وقوفك ها هنا أتريد يا موسى أن يقتلني الخليفة فقال له الإمام(ع):ـ كيف اهرب وكرامتي ــ أي نيل الشهادة ــ على أيديكم ، ثم اخذ بيد الإمام(ع) وأودعه السجن وفي هذه الفترة هدى الله أخت السندي لما رأته من الكرامات الباهرات من مولانا الكاظم(ع) وكانت عندما ترى الإمام تبكي وتقول :ـ خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل(القرشي عن تأريخ بغداد 13/31) ،واتصل بالإمام في هذه الفترة الكثير من العلماء ورواة الحديث فمن هؤلاء الذين تشرفوا بلقاء الإمام(ع) موسى بن إبراهيم المروزي وقد سمح السندي له بذلك وقد ألف إبراهيم كتاب مما سمعه من الإمام(ع) (القرشي عن النجاشي ص319) وكذلك تشرف بلقاء الإمام(ع) هند بن الحجاج ، ودخل على الإمام في غلس الليل أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، وقد أرادا اختباره في بعض المسائل المهمة ليطلعا على مدى علمه ولما استقر بهما المجلس جاء الى الامام بعض الموظفين في السجن فقال له :ـ إن نوبتي قد فرغت وأريد الانصراف ، فان كانت لك حاجة فأمرني أن آتيك بها غدا ، فقال(ع) ليس لي حاجة انصرف ، فلما انصرف ، التفت(ع) الى أبي يوسف وصاحبه فقال لهما:ـ إني لأعجب من هذا الرجل سألني أن أكلفه حاجة يأتيني بها غدا إذا جاء وهو ميت في هذه الليلة ،)فأمسكا عن سؤاله ، وقاما ، وقد استولى عليهما الذهول وجعل كل واحد منهما يقول لصاحبه أردنا أن نسأله عن الفرض ، والسنة فأخذ يتكلم معنا في علم الغيب والله لنرسلن خلف الرجل من يبيت على باب داره لينظر ماذا يكون من امره ؟ وأرسلا في الوقت شخصا فجلس على باب دار الرجل يراقبه فلما استقر في مكانه سمع الصراخ والعويل قد علا من الدار ، فسأل عن الحادث فأخبر بأن الرجل قد توفي ، فقام مبادرا وأخبرهما بالأمر ، فتعجبا من علم الامام(ع) (القرشي عن نور الابصار ص126ـ127 ، الاتحاف بحب الاشراف ص57ـ 58 ، البحار 11/251، وجاء فيه زيادة على ذلك انهما رجعا الى الامام(ع) فقالا له:ـ قد علمنا انك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن اين ادركت امر هذا الرجل الموكل بك انه يموت في هذه الليلة ؟ فقال(ع) :
من الباب الذي علمه رسول الله (ص) علي بن ابي طالب (ع) ، فلما رد عليهما بذلك بقيا حائرين لا يطيقان الجواب ، وكذلك ذكره الاربلي في كشف الغمة ص253))
وممن تشرف بلقاء الامام (ع)علي بن سويد ، وقد سلم للإمام(ع) مجموعة من الكتب والفتاوي من بعض الاقاليم الاسلامية فأجابه الامام(ع) عنها ، ومن الجدير بالذكر ان الامام(ع) بين لكثير من المؤمنين بأن الامام من بعده ولده الرضا (ع) وذلك قبل مرحلة الاعتقال فقد روى محمد بن زيد بن علي بن الحسين قال دعانا ابو ابراهيم ونحن سبعة عشر من ولد علي وفاطمة ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته
إن من الأسباب التي دعت هارون العباسي إلى الاعتقال ، هو تعين الإمام(ع) لحدود فدك ، فقد سأل هارون عنها ليرجعها إليه ، فأبى (ع) أن يأخذها إلا بحدودها ، فقال هارون : ما حدودها ؟ فقال(عليه السلام) : ( إن حددتها لم تردها )
فأصر هارون عليه أن يبينها له قائلا : بحق جدك إلا فعلت
فقال له الإمام(عليه السلام) : أما الحد الأول فعدن
فلما سمع هارون ذلك تغير وجهه ،واستمر الإمام (عليه السلام) في بيانه قائلا: و الحد الثاني سمر قند
فأربد وجه الطاغية ...ولكن الإمام(عليه السلام) لم يعتن به فقد اخذ يستمر في بيانه قائلا : والحد الثالث أفريقيا
فاسود وجه هارون وقال:هيه ،وانطلق الإمام يبين الحد الأخير قائلا : والحد الرابع فسيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيه.
فثار الرشيد ، وقال: لم يبق لنا شيء
قال(عليه السلام) :
قد علمت انك لا تردها
وفي هذا اشارة من الإمام (ع) بحدود الخلافة المغصوبة من هؤلاء الطواغيت
رابعا ـ نقل الشيخ القرشي عن كتاب البحار ج11 ص 279 ، ان صلابة مواقف الإمام(عليه السلام) اتجاه السلطة العباسية كانت احد أسباب الاعتقال
فبالرغم من التقية التي انتهجها أهل البيت(ع) للمحافظة على الشريعة وأهلها إلا انه جرت أحداث وحوادث كثيرة بين من خلالها المعصومين (ع) بعض الحقائق التي فيها المصالح المهمة والضرورية للدين وان كانت هذه الحقائق تؤدي إلى غضب الطواغيت ونقمتهم ، إلا إن هذا كان غير مهم (فالمعصومين(ع)هم سادة الناطقين ومن المهم الالتفات إلى إن الناطقية لها صور متعددة) فقد حَرَّم الإمام الكاظم(عليه السلام) التعاون مع السلطة الجائرة باي شكل من الاشكال ... حتى لو كان كري الجمال لأداء فريضة الحج ، كما حدث لصاحبه صفوان الجمال الذي كان قد كري جماله لهارون لحج بيت الله الحرام
فاضطر صفوان لبيع جماله ، وكان هارون يفهم ذلك ، فمليء قلبه بالحقد على صفوان وهم بقتله
وكذلك مَنَعَ الإمام(عليه السلام) زياد بن أبي سلمه من وظيفته
وقد شاعت في الأوساط الاسلاميه حكم الإمام بحرمة الولاية من قبل هارون وأضرابه من الحكام الجائرين ، وفي يوم من الأيام دخل الإمام(ع)على هارون وهوفي احد قصوره الفخمة وقد أسكرته نشوة الحكم قائلا : ما هذه الدار ؟
فأجابه الإمام(ع) : هذه دار الفاسقين ، قال الله تعالى (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وان يروا سبيل الرشد لايتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا )
فقال هارون: دار من هي؟ ، قال الإمام(ع):
هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة
قال هارون : فما بال صاحب هذه الدار لايأخذها
قال الإمام(ع) : أخذت منه عامره ولا يأخذها الامعمورة
قال هارون : أين شيعتك ؟ فتلى الإمام (ع) قوله تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) فثار هارون وقال بصوت يقطر غضبا : انحن كفار ؟
قال الإمام(ع) : لا ، ولكن كما قال الله تعالى (الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار)
فغضب هارون وأغلظ في كلامه مع الإمام(ع) .
خامساـ
عزم الطاغية العباسي على ايداع امامنا الكاظم(عليه السلام) في غياهب السجن ومن ثم القيام بجريمة قتله(عليه السلام)
إضافة إلى ماذكر في القسم الأول من هذا البحث وغيره من الأمور مثل:ـ
انتشار مناقب الإمام الكاظم(عليه السلام) وذيوع فضله وتحدث الناس عن مآثره أدى إلى أن يضيق صدر الطاغية العباسي ويعزم على اعتقال الإمام (ع) وجاء بنفسه الخبيثة إلى المدينة المنورة وقصد القبر المقدس للمصطفى(ص) وخاطبه (أمام عامة الناس وخاصتهم) قائلا:
بأبي أنت وأمي يارسول الله ، إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه إني أريد أن آخذ موسى بن جعفر (ع) فأحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حربا يسفك فيها دمائهم
(القرشي عن البحار17/296، ونقل السيد هاشم الحسني خبر عن الشيخ المفيد ، بنفس المضمون مع اختلاف بعض الالفاض )
ومن خلال هذه الرواية يتبين مدى الدهاء والمكر العظيم الذي يمتلكه هذا الطاغية العباسي ، فلقد كان يبتغي من حركته هذه عدة أمور ، منها:
ا ـ أن يظهر للناس مدى احترامه لمقام المصطفى (صلى الله عليه وآله) جد الإمام(عليه السلام) ، ومدى التزامه بالشرع .
ب ـ أن يسمع الناس عن سبب اعتقال ابن النبي(صلى الله عليه وآله)، وانه يخاف على الأمة من أن تسفك دمائها(وكأنه لم يسبح في دماء الأبرياء) ، وهذا يكشف عن اعتقاده بان الظلم الذي وصل إليه سوف يجعل الإمام(عليه السلام)لا يتوانى من الخروج عليه
ج ـ اظهر للناس نية الحبس وأبطن نية القتل وهذا ديدن الطواغيت عامة في مسلسل جرائمهم....
سادسا ـ
اصدار امر القاء القبض ضد الامام(عليه السلام)وتسفيره الى سجن البصرة
بعد يوم من وصول الطاغية العباسي الى مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أي في اليوم الثاني اصدر أوامره بإلقاء القبض على الإمام ، فألقت الشرطة عليه القبض وهو قائم يصلي لربه عند رأس جده النبي(صلى الله عليه وآله) فقطعوا صلاته ولم يمهلوه من إتمامها فقيدوه وحملوه من ذلك المكان الشريف ، فتوجه الإمام(عليه السلام) إلى جده(صلى الله عليه وآله) قائلا:
إليك أشكو يا رسول الله (القرشي عن المناقب :2/385)
واقتادوا الإمام(ع) إلى الطاغية العباسي فلما مثل عنده جفاه وأغلظ له القول ، وذلك في سنة 179هجريه في شهر شوال لعشر بقين منه (القرشي عن البحار 11/296)(نقل السيد هاشم الحسني في سيرته عن ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص : ان مجيء هارون كان في سنة 170هجري بعد مضي ست أو سبع سنوات من ملكه)
وخاف الرشيد من حدوث الاضطرابات ، فأمر بتهيئة قبتين فأوعز بحمل احديهما إلى الكوفة والأخرى إلى البصرة ؛ ليوهم على الناس أمر الإمام(ع) ويخفي عليهم خبر اعتقاله في أي مكان
وأمر بحمل الإمام(ع) إلى البصرة في غلس الليل البهيم ووكل حسان السروي بحراسته والمحافظة عليه(القرشي عن البحار 11/298) وقبل أن يصل مولانا الكاظم (عليه السلام)إلى البصرة تشرف بالمثول بين يديه عبد الله بن مرحوم الازدي فدفع له الإمام(ع) كتبا وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا(ع) وعرفه بأنه الإمام من بعده(القرشي عن تنقيح المقال)
1ـ سجن البصرة
سارت القافلة تطوي البيداء حتى انتهت إلى البصرة وذلك قبل التروية بيوم (القرشي عن البحار، منتخب التواريخ 518)
فأخذ حسان الإمام الكاظم(عليه السلام) وسلمه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ، وكان واليا على ألبصره يوم ذاك ، فحبسه في بيت من بيوت المحبس وأقفل عليه أبواب السجن ، فكان لايفتحها إلا في حالتين :ـ
أحداهما في خروجه إلى الطهور والأخرى لإدخال الطعام له(القرشي عن البحار)
وقال الإمام(ع):
[اللهم انك تعلم إني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ،اللهم وقد فعلت فلك الحمد]
(القرشي عن المناقب 2/379)(ونقل السيد هاشم إن بعض الروايات ذكرت إن بعض عيون عيسى سمعوا هذا الدعاء من الإمام(ع) ونقلوه الى عيسى )
وهذا الكلام المعصوم من الإمام(ع)يدل على تسليمه المطلق لأوامر الله تعالى ، ورضاه بقضائه ومدى حبه لمعبوده .
وشاع اعتقال الإمام(ع)في البصرة ، فقام البعض من علماؤها ورواة الحديث فيها بالاتصال بالإمام(ع)من طريق خفي ، وقد روو عنه بعض العلوم والأحكام ، ومن هؤلاء المتصلين بالإمام(ع) ياسين الزياتي (القرشي عن النجاشي ص352)
وضج أهل البصرة من هذا الاعتقال الظالم مما دعا هارون بالإيعاز لعيسى باغتيال الإمام ، وذلك بعد سنة من سجن الإمام(ع) وعند ورود الأمر لعيسى قام الأخير بجمع خواصه وثقاته وعرض عليهم هذا الأمر فنصحوه بعدم ارتكاب هذه الجريمة فاستصوب رأيهم وكتب إلى هارون رسالة يطلب فيها إعفاءه عن ذلك وهذا نصها (القرشي عن البحار ، الفصول المهمة)(ونقل السيد هاشم الرسالة بنفس المضمون مع تغيير بعض الألفاظ)
: يا أمير المؤمنين ، كتبت إلي في هذا الرجل ، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عينا عليه ، لينظروا حيلته ، وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية ، ويجري من الإنسان مجرى الدم ، فلم يكن منه سوء قط ، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير ، ولم يكن عنده تطلع إلى ولاية ، ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا ، ولا دعا قط على أمير المؤمنين ، ولا على أحد من الناس ، ولا يدعوا إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة ، فأن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره ، أو ينفذ من يتسلمه مني وإلا سرحت سبيله فاني منه في غاية الحرج(انتهى)
ويمكن الاستفادة من هذه الرسالة عدة نقاط مهمة وهي:ـ
1ـ قيام الطاغية هارون بتلفيق الأكاذيب الكثيرة عن الإمام(ع) وإلقائها في أذهان الناس وخاصة أعضاء حكومته ومنهم عيسى بن أبي جعفر ، ومن هذه الأكاذيب :
إن الإمام(ع) يتطلع إلى الولاية وينوي الخروج على السلطة الحاكمة ، ومنها انه (ع ) ينوي الشر بالمسلمين...
2ـ بعد إن أطلع بعض الناس الموجودين في سجن البصره من سجناء وسجانين على أحوال الإمام(ع) وأنه(ع) مثال للعبادة والأخلاق المحمدية الأصيلة ، حتى وصل الأمر بعيسى أن يعلن صراحة للحاكم انه في حرج كبير من جانب الإمام(ع) ، بل انه سيطلق سراح الإمام(ع)،إذا لم يعفيه هارون من أمر الاغتيال ، أو لم يبعث إليه من يتسلمه منه ، لذا قرر الطاغية العباسي أن يبعث إلى عيسى بجلب الإمام إلى بغداد(وقيل بعث إليه من يتسلمه منه)، وبعد هذه الحادثة قرر الطاغية العباسي بعدم وضع الإمام في أي سجن عام ، لعزل الإمام(ع)بالكامل عن الناس ومنعهم من التزود من فضائله الشريفة من جهة ومن جهة أخرى التعتيم على الجرائم البشعة التي ترتكبها السلطة الحاكمة بحق العترة الطاهرة ومنهم مولانا باب الحوائج(ع)
3 ـ تكشف هذه الرسالة عن نفسية عيسى بن أبي جعفر فبالرغم من انه من أفراد النظام الحاكم إلا انه :ـ
اـ كان لديه شيء من الإنصاف ونقل الحقيقة لهارون مثل ما هي ولم يلفق الأكاذيب على الإمام(ع) تملقا للحاكم كما يفعل غالبية أزلام الطواغيت الفجرة .
ب ـ كان عيسى محل ثقة عند هارون ولذلك أرسل إليه الإمام(ع) ليحبسه ، ومع ذلك كان عيسى يتحرج من تنفيذ كل ما يطلبه الحاكم ، على العكس من غالبية أزلام الطواغيت فأنهم ينفذون مايريده الطاغية وزيادة وان خالف واضحات الحقائق
ج ـ قيام عيسى بمشاورة خواصه وثقاته وطرح عليهم الأمر وعندما نصحوه بعدم الاغتيال امتثل لنصحهم ، بالرغم من مخالفته لطاغية زمانه ، وهذه خصلة حسنة ، وكذلك يتبين إن ثقاته كانوا على شاكلته .
2ـ السجن الثاني
تم حمل الإمام(عليه السلام) من سجن البصرة الى بغداد مقيدا تحف به الشرطة والحراس ، ولما انتهى إلى بغداد أمر هارون باعتقاله في بيت الفضل ابن الربيع بن يونس ، وبعد فترة من سجن الإمام(ع) في بيت الفضل بن الربيع ، بهر الفضل من عبادة الإمام(ع) فقد روي(القرشي عن عيون الأخبار ،البحار) عن عبد الله القزويني انه قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح داره ، فقال لي أدن مني ، فدنوت منه حتى حاذيته فقال لي :
اشرف على الدار ، فأشرف عبد الله على الدار ، فقال له الفضل : ماترى في البيت ، قال:
أرى ثوبا مطروحا قال له : انظر حسنا ، فتأمل عبد الله في نظره ، فقال : رجل ساجد ، قال له : هل تعرفه ، قال: لا، قال له : هذا مولاك ، قال: من مولاي ، قال له : تتجاهل علي ؟ قال: ماأتجاهل ولكن لاعرف لي مولى ، قال له : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر ، وأخذ الفضل يحدث عبد الله عن عبادة الإمام(ع) وطاعته لله قائلا: إني أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها انه يصلي الفجر ، فيعقب ساعة في دبر صلاته إلى إن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتى تزول الشمس ، وقد وكل من يترصد له الزوال ، فلست ادري متى يقول الغلام قد زالت الشمس ؟ إذ يثبت فيبتديء بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء ، فأعلم انه لم ينم في سجوده ولا أغفى ، فلا يزال كذلك إلا إن يفرغ من صلاة العصر ، فإذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجدا إلى أن تغيب الشمس ، فإذا غابت وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثا ، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة فإذا صلى العتمة أفطر على شوى (تصغير شواء أي شواء قليل) يؤتى به ثم يجدد الوضوء ، ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومه خفيفة ، ثم يقوم فيجدد الوضوء ، ثم يقوم ، فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست أدري متى يقول الغلام أن الفجر قد طلع ؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حول إلي..
ولما رأى عبد الله أكبار الفضل للإمام(ع) حذره من أن يستجيب لداعي الهوى فينفذ رغبة هارون باغتياله ، فقال له :
اتق الله ، ولا تحدث في أمره حدا يكون منه زوال النعمة ، فقد تعلم انه لم يفعل أحد بأحد سوءا إلا كانت نعمته زائلة..
فقال الفضل: قد أرسلوا إلي غير مرة يأمرونني بقتله ، فلم أجبهم إلى ذلك ، وأعلمتهم إني لاأفعل ذلك ، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني..
وكان الطاغية العباسي شديد المراقبة للإمام(ع) فقد زرع العيون لمراقبته(ع) خوفا من أن يتصل به أحد المؤمنين أو أن يخفف عنه الفضل ، وإضافة إلى ذلك كان اللعين العباسي يراقب بنفسه البيت من أعلى قصره وكان في كل مرة يرى ثوبا مطروحا على الأرض في مكان خاص لم يتغير عن موضعه ، فقال للفضل : ماذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟
فقال الفضل : ياأمير المؤمنين ، ما ذاك بثوب ، وإنما هو موسى بن جعفر له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال ، فبهر هارون ، وقال:
أما إن هذا من رهبان بني هاشم ، والتفت إليه الربيع بعد ما سمع منه اعترافه بزهد الإمام(ع) قائلا له: ياأمير المؤمنين مالك قد ضيقت عليه بالحبس؟
فأجابه هارون بما انطوت عليه نفسه من الشر وفقدان الرأفة قائلا: هيهات لابد من ذلك .
3ـ اطلاق سراح الامام (عليه السلام)
ولما طال الحبس بالإمام(ع) ، قام (ع) في غلس الليل البهيم فجدد طهوره وصلا لربه أربع ركعات وأخذ يناجي الله ويدعوه بهذا الدعاء(القرشي عن المناقب 2/370، عيون الأخبار):
ياسيدي نجني من سجن هارون ، وخلصني من يده ، يامخلص الشجر من بين رمل وطين ، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر ، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء ، خلصني من يد هارون.
وبعد هذا الدعاء تم إطلاق سراح الإمام(ع)
(القرشي عن مروج الذهب 3/265 ، وجاء في المناقب 2/370 إن الإمام(ع) رفض الهدايا والخلع التي قدمت إليه )
حدث عبد الله بن مالك الخزاعي ، وكان على دار الرشيد وشرطته ، قال : أتاني رسول الرشيد في ما جاءني فيه قط ، فانتزعني من موضعي ، ومنعني من تغيير ثيابي ، فراعني ذلك ، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم ، فعرف الرشيد خبري ، فأذن لي في الدخول ، فدخلت ، فوجدته جالسا على فراشه ، فسلمت ، فسكت ساعة ، فطار عقلي ، وتضاعف جزعي ، ثم قال لي :
ياعبد الله أتدري لم طلبتك في هذا الوقت ؟ فقلت له : لا والله ياأمير المؤمنين ،قال هارون : إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشيا قد أتاني ، ومعه حربة فقال : إن لم تخل عن موسى بن جعفر الساعة ، وإلا نحرتك بهذه الحربة ، اذهب فخل عنه ، ولم يطمئن عبد الله بأمر هارون بإطلاق سراح الإمام(ع) ،فقال له : أطلق موسى بن جعفر ؟ قال له ذلك ثلاث مرات ، فقال هارون : نعم ،امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر ، وأعطه ثلاثين ألف درهم ، وقل له إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب ، وان أحببت المضي إلى المدينة فالإذن في ذلك إليك .
ومضى عبد الله مسرعا إلى السجن وقال :
لما دخلت وثب الإمام (ع) ، وظن أني قد أمرت فيه بمكروه (وهذا ما توهم به عبد الله )، فقلت له : لا تخف ، قد أمرني أمير المؤمنين بإطلاقك وأن ادفع إليك ثلاثين ألف درهم ، وهو يقول لك : إن أحببت المقام قبلنا فلك ماتحب ، وان أحببت الانصراف فالأمر في ذلك مطلق لك ، وأعطيته الثلاثين ألف درهم وقلت له : لقد رأيت من أمرك عجبا ، وأخذ الإمام (ع)يحدثه عن السبب في إطلاق سراحه قائلا (القرشي عن وفيات الأعيان 4/394 ، شذرات الذهب 1/304) :
بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله (ص) فقال لي ياموسى ، حبست مظلوما قل هذه الكلمات فانك لاتبيت هذه ألليله في الحبس ، فقلت له :
بابي أنت وأمي ما أقول ، فقال : قل: يا سامع كل صوت ، ويا سابق الفوت ، ويا كاسي العظام لحما ، ومنشرها بعد الموت أسألك بأسمائك الحسنى ، وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين ، ياحليما ذا أناة لايقوى على أناته ، ياذا المعروف الذي لاينقطع أبدا ، ولا يحصى عددا ، فرج عني .
فكان ما ترى
وأفرج عن الإمام(ع)وبقي الإمام(ع) في بغداد بعد خروجه من سجن هارون وقال السيد مير على الهندي(القرشي عن مختصر تأريخ العرب ص209) (وقد حدث مرتين أن سمح الرشيد لهذا الإمام الوديع بالرجوع إلى الحجاز ولكن شكوكه كانت في كلتا المرتين تتغلب على طيبة قلبه فيبقيه في الحبس )
وأسأل الله المغفرة للسيد الهندي، فأين هارون من طيبة القلب ، ثم إن صريح الروايات تؤكد إن هارون أطلق سراح الإمام(ع) مرغما خائفا ، بعد ما رأى ما رأى ، إضافة إلى إن هارون ليس لديه شكوك مع الإمام (ع) بل هو يعتقد يقينا بأن الإمام(ع) خليفة رسول الله (ص) وأنه أفضل الخلق في زمانه ، وأن مسند ألخلافه من ارث الإمام(ع) ، وان الناس على اختلاف مشاربهم مجتمعين على فضله ويميلون إليه وهذا ماقض مضجع هارون وسلبه سعادة سلطانه فمثل هذه النفس الشريرة لاتطمئن إلا بقتل الإمام(ع) أو إيداعه السجن الخاص أو فرض الإقامة الجبرية عليه حين لا يجد سبيل للقتل أو السجن .
المهم إن الإمام (ع) أطلق سراحه والتقت به الناس لينهلوا من هذا الماء الإلهي العذب المعين ، ومن الذين اهتدوا على يد الإمام في هذه الفترة بشر الحافي ، وكان الإمام(ع) يدخل على هارون في كل أسبوع مرة وذلك في يوم الخميس (القرشي عن البحار)
(وهذه الزيارات غير بعيد من إن هارون هو من طلبها وحددها بهذا اليوم لزيادة التضييق على الإمام(ع)) وتشفع الإمام(ع) في قضاء الكثير من حوائج الناس التي عطلها هارون، وقلب الله مكر هارون إلى خير وبركة على أهل بغداد، وزوارها (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وتعرف الناس أكثر على الإمام(ع) ، وتزودوا من هذه الحوزة الناطقة الشريفة مايعينهم على أمر الدين والدنيا والآخرة ، وكان هارون يبحث عن حجج لإدانة الإمام(ع) ، فقال له (القرشي عن البحار 11/280) في بعض الأيام : أتقولون إن الخمس لكم . قال الإمام(ع) : نعم ، قال هارون : انه كثير ، قال الإمام(ع) : إن الذي أعطاه لنا علم انه غير كثير .
وفي ذات يوم اصدر هارون بحضرة الإمام(ع) حكما (القرشي عن الوسائل ــ باب الأمر بالمعروف)
على رجل ارتكب جرما بان يضرب ثلاثة حدود فنهاه الإمام(ع) وقال له : إنما تغضب لله فلا تغضب له أكثر مما غضب لنفسه .
وطلب الإمام(ع) يوما من هارون أن يسمح له بالرحيل إلى يثرب لرؤية عياله وأطفاله وذكر الشيخ ألمجلسي (القرشي عن البحار 11/269)خبرين في ذلك :ـ خبر يذكر بأن هارون أذن له بذلك ، وخبر آخر يؤكد عدم موافقة هارون بل انه قال للإمام(ع)(انظر في ذلك ، ولم يجبه إلى شيء حتى حبسه عند السندي بن شاهك(لعنه الله))وقد عزم الطاغية في أحد الأيام على قتل الإمام الاانه رأى البرهان الإلهي فعدل عن ذلك ، فقد حدث الفضل قال :
كنت حاجبا عند الرشيد ، فاقبل على يوما وهو غضبان وبيده سيف يقلبه فقال لي: بقرابتي من رسول الله لئن لم تأتني بابن عمي ، لأخذت الذي فيه عيناك ، فخاف الفضل ومشت الرعدة في أوصاله وقال له بمن أجيئك ، قال هارون بهذا الحجازي ، قال الفضل :ـ وأي الحجازيين ، قال هارون :ـ موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع) ، فخاف الفضل من نقمة هارون وبطشه به فاستجاب لأمره وطلب من أن يحضر سوطين ، وهسارين وجلادين ، فأحضر ذلك ، قال :ـ ومضيت إلى منزل أبي إبراهيم فأتيت إلى خربه فيها كوخ من جريد النخل ، وإذا بغلام أسود ، فقلت له استأذن لي على مولاك ، يرحمك الله ، فقال لي لج ، فليس له حاجب ، ولا بواب فولجت إليه فإذا بغلام اسود بيده مقص يأخذ اللحم من جبينه وعرنين انفه من كثرة سجوده ، فسلمت عليه وقلت :ـ اجب الرشيد ، فقال الإمام(ع) ماللرشيد ، وما لي أما تشغله نعمته عني ؟ ووثب مسرعا وهو يقول :
لولا إني سمعت في خبر عن جدي رسول الله (ص) إن طاعة السلطان للتقية واجبة ، ماجئت ، وأنطلق(ع) مع الفضل
فقال له : استعد للعقوبة ياأبا إبراهيم فقال الإمام(ع) :
أليس معي من يملك الدنيا والآخرة ، ولن يقدر اليوم على سوء بي إنشاء الله ، قال الفضل : رأيت الإمام (ع) وقد أدار يده يلوح بها على رأسه الشريف ثلاث مرات ، ولما وصل الفضل استقبله الرشيد وهو مذهول قد استولى عليه الخوف والذعر فقال له يا فضل ، قال الفضل : لبيك ، فقال هارون : جئتني بابن عمي ، قال الفضل : نعم ، فقال هارون : لاتكن أزعجته ؟ فقال الفضل :ـ لا، فقال هارون : لم تعلمه إني عليه غضبان ، فأني قد هيجت على نفسي مالم أرده ائذن له بالدخول ، ودخل الإمام(ع) فلما رآه وثب إليه قائما وعانقه وقال له : مرحبا بابن عمي وأخي ووارثي مالذي قطعك عن زيارتنا ؟ فأجابه الإمام(ع) :
سعة ملكك وحبك للدنيا ، وأمر الرشيد أن يأتي بغاليه ، فأتى بها ، فطيب الإمام(ع) بيده وأمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان ودنانير ، فقال الإمام(ع) لولا إني أرى أن أزوج بها من عزاب بني أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلتها وانصرف(ع) وهو يقول الحمد لله رب العالمين ، والتفت هارون الى الفضل قائلا له: يا فضل انك لما مضيت لتجيئني به رأيت أقواما قد أحدقوا بداري بأيديهم حراب قد أغرسوها في أصل الدار يقولون إن آذى ابن رسول الله خسفنا به وبداره الأرض وان أحسن إليه انصرفنا عنه وتركناه . وانطلق الفضل مسرعا نحو الإمام(ع) قائلا له:ـ مالذي قلت حتى كفيت أمر الرشيد ؟ قال الإمام(ع)(القرشي عن عيون الأخبار،البحار) :ـ دعاء جدي علي بن أبي طالب (ع) كان إذا دعا به مابرز الى عسكر إلا هزمه ولا الى فارس إلا قهره ، وهو دعاء كفاية البلاء وهو:
(اللهم بك أساور وبك أحاول وبك أجاور وبك أصول وبك انتصر وبك أموت وبك أحيا ، أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، اللهم انك خلقتني ورزقتني وسترتني عن العباد بلطف ما خولتني أغنيتني ، فإذا هويت رددتني ، وإذا عثرت قومتني وإذا مرضت شفيتني وإذا دعوت أجبتني ياسيدي :ارض عني فقد أرضيتني )
4ـ السجن الثالث
كان تأثير هذه المعجزات والكرامات على هارون تأثير وقتي وذلك لخبث سريرته وركونه لشيطان الهوى ، فما لبث بعد فترة قصيرة ،أن أمر باعتقال الإمام(ع) وإيداعه في بيت الفضل بن يحيى بن خالد البر مكي، ولكن الأخير لم يضيق على الإمام(ع)بل على العكس ، امتنع عن تنفيذ رغبات الطاغية العباسي ، وانطلق بعض الأوغاد الى هارون وأخبروه بترفيه الفضل على الإمام(ع) وكان آنذاك في الرقة(نقل السيد هاشم في سيرته انه عندما أوصلت العيون بان الفضل بن يحيى قد أوسع على الإمام(ع) كتب هارون إليه كتابا ينكر عليه توسعته على الإمام(ع) وأمره بقتله فرفض يحيى تنفيذ الأمر، فاغتاظ هارون ودعا مسرور.....) فأنفذ في الوقت مسرور الخادم الى بغداد ليكشف له حقيقة الحال ، فان كان الأمر على مابلغه مضى الى العباس بن محمد وأوصله رسالة يأمره فيها بجلد الفضل ، وكذلك أمره بالوصول الى السندي بن شاهك مدير شرطته ليكون منفذا لأوامره ،وقدم مسرور الى بغداد فنزل دار الفضل بن يحيى لايدري احد مايريده ، ثم دخل على الإمام موسى(ع) فوجده مرفها عليه كما بلغ هارون فمضى من فوره الى العباس وأمره بتنفيذ أمر هارون ، وكذلك سار الى السندي فأمره بإطاعة العباس ، وأرسل العباس بالفور الشرطة الى الفضل فأخرجوه من داره وهو يهرول والناس من حوله ،فدخل الى العباس فأمر بتجريده ،ثم ضربه مائة سوط ، وخرج الفضل متغيرا ، قد انهارت قواه وأعصابه ، فجعل يسلم على الناس يمينا وشمالا وهو لايشعر بذلك ، وكتب مسرور الى الطاغية بما فعله ، فأمره بأخذ الإمام(ع) واعتقاله عند السندي بن شاهك ، وجلس الطاغية مجلسا حافلا ضم جمهورا غفيرا من الناس ، فرفع صوته قائلا أيها الناس إن الفضل بن يحى قد عصاني ، وخالف طاعتي ، ورأيت أن العنه فالعنوه ، فارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل باللعن والسباب والشتم على الفضل حتى اهتزت الأرض من أصوات اللعن ، وبلغ يحيى بن خالد البر مكي ذلك فأسرع الى هارون فدخل عليه من غير الباب الذي يدخل منه الناس ، حتى جاءه من خلفه فأسره قائلا :ـ (ياأمير المؤمنين إن الفضل قد حدث وأنا أكفيك ماتريد) فسر هارون بذلك ، وظهر السرور على وجهه ، وذهب عن نفسه ما يحمله من الحقد على الفضل ، فأراد يحيى أن يستعيد كيان ولده ورد له كرامته فقال لهارون:ـ ياأمير المؤمنين ، قد غضضت من الفضل بلعنك إياه ، فشرفه بإزالة ذلك ، واقبل هارون بوجهه على الناس ، فرفع عقيرته قائلا :ـ إن الفضل قد عصاني في شيء فلعنته ، وقد تاب وأناب الى طاعتي فتولوه، وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل وهي تعلن التأييد الشامل لتلك السياسة المتناقضة قائلين:ـ ياأمير المؤمنين ، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ، وقد توليناه(القرشي عن مقاتل الطالبيين ص 503ـ504) والظاهر إن فترة سجن الإمام(ع) عند الفضل بن يحى بن خالد كانت قصيرة .
5ـ السجن الأخير
وأخيرا بعد هذا الصراع الطويل وجد اللعين العباسي من ينفذ أوامره بالحرف الواحد، وهو السندي بن شاهك مولى أبو جعفر الدوانيقي ، فبعد خروج يحيى بن خالد البر مكي الى بغداد ماج الناس وأرجفوا بكل شيء واظهروا انه جاء لتعديل السواد والنظر في أمر العمال وتشاغل بذلك أياما ، ثم دعا السندي بن شاهك فأمره باعتقال الإمام وحبسه في المحبس المعروف بدار المسيب قرب باب الكوفة (منطقة الو شاش حاليا في كرخ بغداد) (وقيل إن محل الحبس في نفس دار السندي)(القرشي عن البحار 11/300) وأمر هارون السندي بأن يضيق على الإمام وان يقيده بثلاثين رطل من الحديد ،ويقفل الباب في وجهه ، ولا يدعه يخرج إلا للوضوء (القرشي عن الهداية للحسين بن حمدان) وامتثل الأخير لكل الأوامر ووكل بشار مولاه بمحافظته وكان بشار شديد البغض لال أبي طالب ولكن بعد فترة وببركة الإمام تغير حاله واهتدى الى طريق الحق (القرشي عن البحار 11/305) لكن السندي لم يرعى أي حرمة للإمام(ع) ، فقد حدث أبو الأزهر ابن ناصح البرجحي ، قال اجتمعت مع ابن السكيت أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ألدورقي النحوي في مسجد يقع بالقرب من دار ألسندي ، فدارت بيننا مذاكرة في علم العربية ، وكان في الجامع رجل لانعرفه فالتفت إلينا قائلا :ـ ياهؤلاء ،انتم الى إقامة دينكم أحوج منكم الى إقامة ألسنتكم ، واخذ الرجل يدلي علينا بالأدلة الوافرة على ضرورة الإمامة ، ثم قال :ـ ليس بينكم وبين إمام العصر غير هذا الجدار ـ وأشار الى جدار السندي ، فقيل له :ـ لعلك تعني هذا المحبوس ، قال نعم يقول أبو الأزهر :ـ فعرفنا الرجل من الشيعة ، وانه يذهب للإمامة ، فقلنا له قد سترنا عليك ، وطلبنا منه أن يذهب عنا لئلا نبتلي بسببه ، فانبرى الرجل لنا وقال :ـ والله لايفعلون ذلك أبدا ، والله ماقلت لكم إلا بأمره ، وانه ليرانا ويسمع كلامنا ، ولو شاء أن يكون ثالثنا لكان ، يقول أبو الأزهر :ـ وفي أثناء الحديث دخل علينا رجل من باب المسجد تكاد العقول أن تذهب لهيبته ووقاره ، فعلمنا انه الإمام موسى بن جعفر (ع) فبادرنا قائلا :ـ إن ذلك الرجل الذي حدثكم عني صاحبي وفي الوقت أقبل السندي ومعه جماعه من شرطته فقال للإمام(ع) بغير حياء ولا خجل :ـ ياويحك كم تخرج بسحرك وحيلتك من وراء الأبواب والإغلاق فلو كنت هربت كان أحب إلي من وقوفك ها هنا أتريد يا موسى أن يقتلني الخليفة فقال له الإمام(ع):ـ كيف اهرب وكرامتي ــ أي نيل الشهادة ــ على أيديكم ، ثم اخذ بيد الإمام(ع) وأودعه السجن وفي هذه الفترة هدى الله أخت السندي لما رأته من الكرامات الباهرات من مولانا الكاظم(ع) وكانت عندما ترى الإمام تبكي وتقول :ـ خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل(القرشي عن تأريخ بغداد 13/31) ،واتصل بالإمام في هذه الفترة الكثير من العلماء ورواة الحديث فمن هؤلاء الذين تشرفوا بلقاء الإمام(ع) موسى بن إبراهيم المروزي وقد سمح السندي له بذلك وقد ألف إبراهيم كتاب مما سمعه من الإمام(ع) (القرشي عن النجاشي ص319) وكذلك تشرف بلقاء الإمام(ع) هند بن الحجاج ، ودخل على الإمام في غلس الليل أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، وقد أرادا اختباره في بعض المسائل المهمة ليطلعا على مدى علمه ولما استقر بهما المجلس جاء الى الامام بعض الموظفين في السجن فقال له :ـ إن نوبتي قد فرغت وأريد الانصراف ، فان كانت لك حاجة فأمرني أن آتيك بها غدا ، فقال(ع) ليس لي حاجة انصرف ، فلما انصرف ، التفت(ع) الى أبي يوسف وصاحبه فقال لهما:ـ إني لأعجب من هذا الرجل سألني أن أكلفه حاجة يأتيني بها غدا إذا جاء وهو ميت في هذه الليلة ،)فأمسكا عن سؤاله ، وقاما ، وقد استولى عليهما الذهول وجعل كل واحد منهما يقول لصاحبه أردنا أن نسأله عن الفرض ، والسنة فأخذ يتكلم معنا في علم الغيب والله لنرسلن خلف الرجل من يبيت على باب داره لينظر ماذا يكون من امره ؟ وأرسلا في الوقت شخصا فجلس على باب دار الرجل يراقبه فلما استقر في مكانه سمع الصراخ والعويل قد علا من الدار ، فسأل عن الحادث فأخبر بأن الرجل قد توفي ، فقام مبادرا وأخبرهما بالأمر ، فتعجبا من علم الامام(ع) (القرشي عن نور الابصار ص126ـ127 ، الاتحاف بحب الاشراف ص57ـ 58 ، البحار 11/251، وجاء فيه زيادة على ذلك انهما رجعا الى الامام(ع) فقالا له:ـ قد علمنا انك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن اين ادركت امر هذا الرجل الموكل بك انه يموت في هذه الليلة ؟ فقال(ع) :
من الباب الذي علمه رسول الله (ص) علي بن ابي طالب (ع) ، فلما رد عليهما بذلك بقيا حائرين لا يطيقان الجواب ، وكذلك ذكره الاربلي في كشف الغمة ص253))
وممن تشرف بلقاء الامام (ع)علي بن سويد ، وقد سلم للإمام(ع) مجموعة من الكتب والفتاوي من بعض الاقاليم الاسلامية فأجابه الامام(ع) عنها ، ومن الجدير بالذكر ان الامام(ع) بين لكثير من المؤمنين بأن الامام من بعده ولده الرضا (ع) وذلك قبل مرحلة الاعتقال فقد روى محمد بن زيد بن علي بن الحسين قال دعانا ابو ابراهيم ونحن سبعة عشر من ولد علي وفاطمة ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته
6ـ وصية الامام(عليه السلام)
ذكر
علماء التأريخ بأن هنالك وصيتان مكتوبتان للإمام الكاظم(ع)احدهما مكتوبه
بخط محمد بن جعفر بن سعيد الاسلمي والثانية هي التي كان حاضرا فيها عند
كتابتها والشهود عليها كل من ابراهيم بن محمد الجعفري/ واسحاق بن محمد
الجعفري /واسحاق بن محمد بن جعفر/ وجعفر بن صالح /ومحمد الجعفري /ويحيى بن
الحسين بن زيد/ وسعد بن عمران الانصاري/ ومحمد بن الحارث الانصاري /ويزيد
بن سليط الانصاري/ ومحمد بن جعفر ابن سعد الاسلمي /،فعندما حضر هؤلاء
المؤمنين شرع الامام بذكر وصيته وكما يلي:ـ (((ان موسى
يشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، وان محمدا عبده ورسوله ، وأن
الساعة آتية لاريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن البعث من بعد
الموت حق ، وأن الوعد حق ، وأن الحساب حق ، والقضاء حق ، وأن الوقوف بين
يدي الله حق ، وأن ما جاء به محمد (ص) حق ، وأن ما أنزل به الروح الامين حق
، على ذلك أحيى وعليه أموت ، وعليه ابعث انشاء الله ، وأشهدهم ان هذه
وصيتي بخطي ، وقد نسخت وصية جدي أمير المؤمنين على بن أبي طالب (ع) ووصية
محمد بن علي قبل ذلك نسختها حرفا بحرف ، ووصية جعفر بن محمد (ع) ، على مثل
ذلك ، واني قد أوصيت بها الى علي وبني بعده معه ان شاء وآنس منهم رشدا ،
وأحب ان يقرهم فذاك له ، ولا أمر لهم معه وأوصيت اليه بصدقاتي وأموالي
وموالي وصبياني الذين خلفت وولدي الى ابراهيم والعباس وقاسم واسماعيل وأحمد
وأم أحمد ، والى علي أمر نسائي دونهم وثلث صدقة ابي وثلثي يضعه حيث يرى ،
ويجعل فيه ما يجعل ذو المال في ماله ،فأن احب ان يبيع أو يهب أو ينحل أو
يتصدق بها على من سميت له وعلى غير من سميت فذاك له ، وهو أنا في وصيتي في
مالي ، وفي أهلي وولدي وان يرى أن يقر اخوته الذين سميتهم في كتابي هذا
أقرهم ، وان كره فله ان يخرجهم غير مثرب عليه ولا مردود ، فان آنس منهم غير
الذي فارقتهم عليه فأحب أن يردهم في ولاية فذاك له ، وان أراد رجل منهم أن
يزوج أخته فليس له أن يزوجها الا بأذنه وأمره فانه أعرف بمناكح قومه ، وأي
سلطان أو أحد من الناس كفه عن شيء أو حال بينه وبين شيء مما ذكرت فهو من
الله ومن رسوله بريء ، والله ورسوله منه براء ، وعليه لعنة الله وغضبه
ولعنة اللاعنين والملائكة المقربين والنبيين والمرسلين وجماعة المؤمنين ،
وليس لأحد من السلاطين أن يكفه عن شيء ، وليس لي عنده تبعه ، ولا تباعه ،
ولا لأحد من ولدي وله قبلي مال ، فهو مصدق فيما ذكر ، فأن أقل فهو أعلم وأن
أكثر فهو الصادق كذلك ، وانما أردت بإدخال الذين أدخلتهم معه التنويه
بأسمائهم ، والتشريف لهم ، وأمهات أولادي من أقامت منهن في منزلها وحجابها
فلها ما كان يجري عليها في حياتي ،ان رأى ذلك ومن خرجت منهن الى زوج فليس
لها ان ترجع الى محواي الا ان يرى علي غير ذلك ، وبناتي بمثل ذلك ، ولا
يزوج بناتي أحد من أخوتهن من أمهاتهن ، ولا سلطان ولا عم الا برأيه ومشورته
، فان فعلو غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله ، وجاهدوه في ملكه ، وهو أعرف
بمناكح قومه ، فان اراد ان يزوج زوج وان اراد ان يترك ترك ، وقد اوصيتهن
بما ذكرت في كتابي هذا ، وجعلت الله عز وجل عليهن شهيدا ، وهو وأم أحمد
شاهدان وليس لأحد ان يكشف وصيتي ، ولا ينشرها ، وهو منه على غير ما ذكرت
وسميت ، فأن أساء فعليه ، ومن أحسن فلنفسه ، وما ربك بظلام للعبيد ، وصلى
الله على محمد وآله ، وليس لأحد من سلطان ولا غيره أن يفض كتابي هذا الذي
ختمت عليه الاسفل ،فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين ،
والملائكة المقربين وجماعة المرسلين والمؤمنين ، وعلى من فض كتابي
هذا)))(القرشي عن اصول الكافي 1/316ـ317، عيون أخبار الرضا ،البحار) وكذلك
تصدق الامام
الكاظم(ع) ببعض اراضيه على اولاده وسجل ذلك في وثيقة والزم ابنائه بتنفيذ
مضامينها والعمل على وفقها ، وهذا نصها كتب (ع)بعد البسملة(((هذا ما تصدق
به موسى
بن جعفر تصدق بارضه كذا وكذا ــوقد عين ذلك ــ كلها نخلها وارضها ومائها
وارجائها وحقوقها وشربها من الماء وكل حق هو لها في مرفع او مطهر او عيص او
مرفق او ساحة او مسيل او عامر او غامر تصدق بجميع حقه من ذلك على ولده من
صلبه الرجال والنساء يقيم واليها ما أخرج الله عز وجل من غلتها بعد الذي
يكفيها من عمارتها ومرافقها وبعد ثلاثين عذقا يقسم في مساكين اهل القرية ،
بين ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الانثيين فان تزوجت امرأة من ولد موسى بن جعفر فلا حق لها في هذه الصدقة حتى ترجع اليها بغير زوج ، فأن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى ، ومن توفي من ولد موسى وله ولد فولده على سهم ابيه للذكر مثل حظ الانثيين على مثل ما شرط موسى بين ولده من صلبه ومن توفي من ولد موسى
ولم يترك ولد يرد حقه على أهل الصدقة وليس لولد بناتي في صدقتي هذه حق
الا ان يكون آباؤهم من ولدي وليس لاحد في صدقتي حق مع ولدي وولد ولدي
وأعقابهم ما بقي منهم أحد ، فأن انقرضوا ولم يبق منهم أحد فصدقتي على ولد
أبي من أمي ما بقي منهم أحد ، ما شرطت بين ولدي وعقبي، فان أنقرض ولد أبي
من أمي وأولادهم فصدقتي على ولد أبي وأعقابهم ما بقي منهم أحد فان لم يبق
منهم أحد فصدقتي على الاولى فالأولى حتى يرث الله الارض الذي يرثها وهو خير
الوارثين تصدق موسى
بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح ، صدقة حبيسا بتا بتلا لا مثنويه فيها ولا
ردا أبدا ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة ، ولا يحل لمؤمن يؤمن بالله
واليوم الآخر أن يبيعها أو يبتاعها أو ينحلها ، أو يغير شيئا مما وضعتها
عليه حتى يرث الله الارض ومن عليها ، وجعل صدقته هذه الى على وإبراهيم فان
أنقرض أحدهما دخل القسم مع الباقي في مكانه فان أنقرض أحدهما دخل اسماعيل
مع الباقي منهما ، فان أنقرض أحدهما دخل العباس مع الباقي منهما ، فان
انقرض أحدهما فالأكبر من ولدي يقوم مقامه فان لم يبق من ولدي الا واحد فهو
الذي يقوم به )(القرشي عن البحار 11/215ـ216)
7ـ كلا كلا للظالم
روي ان بعض المسلمين طلبوا من الامام(عليه السلام) ان يتكلم مع بعض الشخصيات المقربة من هارون ليتوسط في اطلاق سراحه فرفض الامام(عليه السلام) وقال :
حدثني أبي عن آبائه أن الله عز وجل أوحى الى داود: يا داود انه ما أعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني ، وعرفت ذلك منه الا قطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الارض من تحته (القرشي عن تاريخ اليعقوبي 3/125)
ارسل الامام موسى الكاظم(عليه السلام)رساله الى هارون هذا نصها:
(انه لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعا الى يوم ليس له انقضاء ، وهناك يخسر المبطلون) (القرشي عن البداية والنهاية 10 /183، تاريخ بغداد)
وأنفذ هارون الى الامام(عليه السلام) جاريه بارعة الجمال بيد أحد خواصه لتتولى خدمة الامام(عليه السلام) عسى أن يفتتن بها ، فلما وصلت اليه ، قال(عليه السلام) لمبعوث هارون : قل لهارون:
بل أنتم بهديتكم تفرحون ، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها .
فرجع الرسول ومعه الجارية وأبلغ هارون قول الامام(عليه السلام) ، فالتاع غضبا وقال له : ارجع اليه وقل له : ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخدمناك واترك الجارية عنده ، وانصرف .
فرجع ذلك الشخص وترك الجارية عند الإمام(عليه السلام) وأبلغه بمقالته ، وأنفذ هارون خادما له الى السجن ليتفحص عن حال الجارية ، فلما انتهى إليها رآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها وهي تقول في سجودها (قدوس، قدوس) فمضى الخادم مسرعا فأخبره بحالها ، فقال هارون : سحرها والله موسى بن جعفر ، علي بها ، فجيء بها إليه وهي ترتعد قد شخصت ببصرها نحو السماء وهي تذكر الله وتمجده ، فقال لها هارون : ما شأنك ، فقالت: شأني الشأن البديع ، إني كنت عنده واقفة ، وهو قائم يصلي ليله ونهاره ، فلما انصرف من صلاته قلت له: هل لك حاجة أعطيكها ، فقال الإمام(عليه السلام):
وما حاجتي إليك
قلت إني أدخلت عليك لحوائجك ، قال الإمام(عليه السلام):
فما بال هؤلاء ــ وأشار بيده الى جهة ــ فالتفت فإذا ، روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري ، ولا أولها من آخرها ، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها وصائف و وصايف لم أر مثل وجوههن حسنا ، ولا مثل لباسهن لباسا ، عليهم الحرير الأخضر ، والأكاليل والدر والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ، ومن كل الطعام فخرت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت ، فقال لها هارون وقد أترعت نفسه بالحقد : يا خبيثة لعلك سجدت ، فنمت فرأيت هذا في منامك ، قالت : لا والله يا سيدي ، رأيت هذا قبل سجودي ، فسجدت من أجل ذلك ، فالتفت هارون الى خادمه وأمره باعتقال الجارية وإخفاء الحادث لئلا يسمعه أحد من الناس فأخذها الخادم ، واعتقلها عنده ، فأقبلت على العبادة والصلاة ، فاذا سئلت عن ذلك قالت : هكذا رأيت العبد الصالح ،(وقالت اني لما عاينت من الامر نادتني الجواري يا فلانه ، ابعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه فنحن له دونك ، وبقيت عاكفة على العبادة حتى لحقت بالرفيق الاعلى(القرشي عن المناقب 2/263ـ264)).
نعم كل هذه الدلائل والبراهين والكرامات ... لم يستجب لها الطاغية العباسي بل انه رفض تحمل عودة مكائده الى نحره فعزم على قتل الامام(عليه السلام) فدعا برطب فأكل منه ، ثم أخذ اناءا فوضع فيه عشرين رطبة ، وأخذ سلكا فعركه في السم ، وأدخله في سم الخياط ، وأخذ رطبة من ذلك الرطب فوضعها في ذلك السلك وأخرجه منها حتى تكللت بالسم ، ووضعها في ذلك الرطب ، وقال لخادمه:
احمله الى موسى بن جعفر ، وقل له : ان امير المؤمنين أكل من هذا الرطب وهو يقسم عليك بحقه لما أكلته عن آخره ، فأني أخترتها لك بيدي ، ولا تتركه يبقى منه شيئا ، ولا يطعم منه احدا ، فحمل الخادم الرطب وجاء الى الامام(عليه السلام) ، وابلغه برسالة هارون فأمره (عليه السلام) ان يأتيه بخلال ، فجاء به اليه ، وقام بإزائه ، فاخذ الامام(عليه السلام)يأكل من الرطب ، وكانت للرشيد كلبة عزيزه عنده ، فجذبت نفسها وخرجت تجر بسلاسلها الذهبية حتى حاذت الامام(عليه السلام) فبادر(عليه السلام) بالخلال الى الرطبة المسمومة ورمى بها الى الكلبة فأكلتها فلم تلبث ان ضربت بنفسها الارض وماتت ، واستوفى الامام(عليه السلام)باقي الرطب وحمل الغلام الاناء الى الرشيد ، فلما راه بادره قائلا : نعم يا أمير المؤمنين ، قال هارون : كيف رأيته ، قال الخادم : ما أنكرت منه شيئا ، ثم قص عليه حديث الكلبة وموتها فاضطرب الرشيد وقام بنفسه فأشرف عليها فرآها وقد تهترت وتقطعت من السم فوقف مذهولا قد مشت الرعدة بأوصاله وقال:ـ ما ربحنا من موسى الا ان اطعمناه جيد الرطب وضيعنا سمنا وقتلنا كلبتنا ما في موسى حيلة (القرشي عن البحار 11/299)
وبعد ذلك استدعى وزيره يحيى بن خالد البرمكي فقال له : يا ابا علي أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب ؟ الا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيرا تريحنا من غمه ، فقال يحيى : الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمن عليه وتصل رحمه فقد والله أفسد علينا قلوب شيعتنا ، فقال هارون انطلق اليه واطلق عنه الحديد وابلغه عني السلام وقل له: يقول لك ابن عمك انه قد سبق مني فيك يمين اني لا أخليك حتى تقر لي بالإساءة وتسألني العفو عما سلف منك وليس عليك في اقرارك عار ولا في مسألتك اياي منقصة ، وهذا يحيى بن خالد ثقتي ووزيري وصاحب أمري فاسأله بقدر ما أخرج من يميني ،فلما مثل يحيى عند الامام(عليه السلام) وأخبره بمقالة هارون انبرى (عليه السلام)اليه
ــ اولاــ فاخبره بما يجري عليه وعلى اسرته من زوال النعمة على يد هارون ، وحذره من بطشه ، ثم رد(عليه السلام)
ــ ثانيا ــ على مقالة هارون فقال(عليه السلام) له :ـ يا أبا علي أبلغه عني ، يقول لك موسى بن جعفر يأتيك رسولي يوم الجمعة فيخبرك بما ترى ــ اي بموته ــ وستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه ، وخرج يحيى ، فأخبر هارون بمقالته ، فقال مستهزئا وساخرا: ان لم يدع النبوة بعد ايام فما أحسن حالنا (القرش عن البحار 11/301ـ302)
8ـ الامام ينعى نفسه
بعد اقتراب لقاء الامام(عليه السلام)بربه نعى نفسه المقدسة لشيعته وذلك في جوابه على المسائل التي بعثها علي بن سويد ، فقد جاء في الجواب بعد البسملة ما نصه:
(الحمد لله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره ابصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والارض اليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والاديان المتضادة، فمصيب ومخطئ وضال ومهتدي وسميع وأصم وبصير واعمى حيران، فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه محمد(ص) اما بعد:
فانك امرؤ ـ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة ، وحفظ مودة ما استرعاك من دينه ، وما ألهمك من رشدك وبصرك من أمر دينك بتفضيلك اياهم وبردك الأمور اليهم ، كتبت الي تسألني عن أمور كنت منها في تقية ومن كتمانها في سعة فلما انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة الى أهلها العتاة على خالقهم رأيت أن أفسر لك ما سألتني عنه مخافة أن تدخل الحيرة على ضعاف شيعتنا من قبل جهالهم فاتق الله عز ذكره ، وخص بذلك الأمر أهله واحذر أن تكون سبب بلية على الاوصياء أو حارشا عليهم بإفشاء ما استودعتك ، واظهار ما استكتمتك وال تفعل ان شاء الله .ان أول ما أنهى اليك اني أنعى اليك نفسي في ليالي هذه غير جازع ولا نادم ولا شاك فيما هو كائن مما قد قضى الله عز وجل وختم ، فاستمسك بعروة الدين ،آل محمد العروة الوثقى الوصي بعد الوصي ، والمسالمة لهم والرضا بما قالوا ، ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك ولا تحبن دينهم فانهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ،أو تدري ما خانوا أماناتهم ؟ ائتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه ودلوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وسألت عن رجلين اغتصبا رجلا مالا كان ينفقه على الفقراء والمساكين وابناء السبيل وفي سبيل الله فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حملاه اياه كرها فوق رقبته الى منازلهما فلما أحرزاه توليا انفاقه أيبلغان بذلك كفرا؟
فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا على الله عز وجل كلامه وهزئا برسوله(ص) وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، والله ما دخل قلب أحد منهما شيء من الايمان منذ خروجهما من حالتيهما ، وما زادا الا شكا ، كانا خداعين مرتابين منافقين حتى توفتهما ملائكة العذاب الى محل الخزي في دار المقام وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبته منهم عارف ومنكر فأولئك اهل الردة الاولى من هذه الامة فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ،وسألت عن مبلغ علمنا ،وهو على ثلاثة وجوه ماض وغابر وحادث فأما الماضي فمفسر واما الغابر فمزبور واما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الاسماع وهو أفضل علمنا ، ولا نبي بعد نبينا محمد(ص) وسألت عن امهات أولادهم وعن نكاحهم وعن طلاقهم ،فأما امهات أولادهم فهن عواهر الى يوم القيامة نكاح بغير ولي وطلاق في غير عدة ، وأما من دخل في دعوتنا فقد هدم ايمانه ضلاله ويقينه شكه ، وسألت عن الزكاة فيهم فما كان من الزكاة فانتم أحق به لأنا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان ، وسألت عن الضعفاء فالضعيف من لم يرفع اليه حجة ، ولم يعرف الاختلاف ، فاذا عرف الاختلاف فليس بضعيف ، وسألت عن الشهادة لهم ، فأقم الشهادة لله عز وجل ولو على نفسك والوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم فان خفت على أخيك ضيما فلا وادع الى شرائط الله عز ذكره من رجوت اجابته ولا تحصن بحصن رياء ، ووال آل محمد ولا تقل لما بلغك عنا ونسب الينا هذا باطلا وان كنت تعرف منا خلافه فانك لا تدري لما قلناه وعلى أي وجه وضعناه ، آمن بما اخبرك ، ولا تفش بما استكتمناك من خبرك ، ان من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه وآخرته ولا تحقد عليه وان أساء وأجب دعوته اذا دعاك ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وان كان أقرب اليه منك وعده في مرضه ، وليس من أخلاق المؤمن الغش ولا الأذى ، ولا الخيانة ولا الكبر ولا الخنا ولا الفحش ولا الأمر به ، فاذا رأيت المشوه الاعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين ، واذا انكسفت الشمس فارفع بصرك الى السماء وانظر ما فعل الله بالمجرمين ، فقد فسرت لك جملا مجملا ، وصلى الله على محمد وآله الاخيار..)
(القرشي عن روضة الكافي ص124ـ126) (هنالك تفسير لهذه الرسالة في مرآة العقول)
9ـ جريمة القتل
اخيرا عمد اللعين هارون العباسي الى رطب فوضع فيه سما فاتكا وامر السندي ان يقدمه للإمام(عليه السلام) ويحتم عليه ان يتناول منه (القرشي عن الدمعة الساكبة نقلا عن عيون الاخبار)
وقيل ان هارون أوعز الى السندي في ذلك، فأخذ رطبا ووضع فيه السم وقدمه للإمام(عليه السلام) فأكل منه عشر رطبات ، فقال له السندي زد على ذلك ، فرمقه الامام(عليه السلام) بطرفه وقال له :
حسبك قد بلغت ما تحتاج اليه (القرشي عن البحار )
وهنالك أقوال أخرى فيمن تولى سم الامام(عليه السلام):
ففي كتاب فرق الشيعة / ص89 : ان يحيى بن خالد البرمكي هو الذي سم الامام(عليه السلام) ، وكذلك في كتاب رجال الكشي ص371 ، في رواية عن عبدالله بن طاووس قال : سألت الامام الرضا(عليه السلام) قلت له : هل ان يحيى بن خالد سم أباك موسى بن جعفر ؟ فقال الامام الرضا (عليه السلام):
نعم سمه في ثلاثين رطبة مسمومة
وعن ابو الفرج الاصفهاني ان يحيى البرمكي أمر السندي بقتل الامام(عليه السلام)بعد حادثة غضب هارون على الفضل بن يحيى (القرشي عن مقاتل الطالبيين ص504)وفي كتاب عيون أخبار الرضا ان الفضل بن يحيى هو من سم الامام(عليه السلام)
وبعد ان اقدم السندي على ارتكاب جريمته اضطرب اضطرابا شديدا، واستدعى الوجوه والشخصيات وكانوا ثمانين شخصا وقال لهم: انظروا الى هذا الرجل هل حدث به حدث ؟ فان الناس يزعمون انه قد فعل به مكروه ، ويكثرون من ذلك ، وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق ، ولم يرد به أمير المؤمنين سوئا وانما ينتظره ان يقدم عليه فيناظره ، وها هو ذا موسع عليه في جميع اموره فاسألوه ، يقول أحد الشهود وهو من شيوخ العامة: ولم يكن لنا هم سوى مشاهدة الامام(عليه السلام) ومقابلته فلما دنونا منه لم نر مثله قط في فضله ونسكه فانبرى الينا وقال لنا :
أما ما ذكر من التوسعة ، وما أشبه ذلك ، فهو على ما ذكر ، غير اني أخبركم ايها النفر اني قد سقيت السم في تسع تمرات ، واني أصفر غدا ، وبعد غد أموت .
ولما سمع السندي ذلك انهارت قواه ، ومشت الرعدة في أوصاله واضطرب مثل السعفة التي تلعب بها الرياح العاصفة (القرشي عن روضة الواعظين ص185ـ186، وعيون الاخبار ، والامالي)
وجاء في البحار ان الامام(عليه السلام) التفت الى الشهود ، فقال لهم :
اشهدوا على اني مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام ، اشهدوا أني صحيح الظاهر ، لكني مسموم وسأحمر في هذا اليوم حمرة شديدة وأبيض بعد غد ، وأمضي الى رحمة الله ورضوانه ، فمضى (عليه السلام) كما قال : في آخر اليوم الثالث
وجاء في قرب الاسناد للحميري انه(عليه السلام) قال للشهود :
اني سقيت السم في سبع تمرات
ومن بركات مولانا الامام الكاظم (عليه السلام)هدايته للمسيب بن زهرة )[احد رجال دولة بني العباس فقد خدمهم من عهد الدوانيقي الى هارون] (القرشي عن الجهشياري ص97)
وقد استدعاه مولانا الكاظم(عليه السلام) قبل استشهاده بثلاثة ايام ، فلما مثل عنده قال(عليه السلام) له: يا مسيب . فقال المسيب : لبيك يا مولاي .
قال (عليه السلام): اني ظاعن في هذه الليلة الى المدينة ، مدينة جدي رسول الله (ص) لأعهد الى علي ابني ما عهده الي آبائي ، وأجعله وصيي وخليفتي ، وآمره بأمري . قال المسيب : يا مولاي ، كيف تأمرني أن أفتح لك الابواب وأقفالها والحرس معي على الابواب ؟ فقال الامام(عليه السلام) : يا مسيب ضعف يقينك في الله عز وجل وفينا ؟ قال المسيب : لا، يا سيدي ادع الله ان يثبتني . فقال الامام(عليه السلام) :
اللهم ثبته ، ثم قال (عليه السلام):
ادعو الله باسمه العظيم الذي دعا به آصف حين جاء بسرير بلقيس فوضعه بن يدي سليمان قبل ارتداد طرفه اليه ، حتى يجمع بيني وبين علي ابني بالمدينة ، قال المسيب فسمعته يدعوا ، ففقدته عن مصلاه فلم ازل قائما على قدمي حتى رأيته قد عاد الى مكانه واعاد الحديد الى رجليه ، فوقعت على وجهي ساجدا شاكرا لله على ما أنعم به علي من معرفته والتفت الامام (عليه السلام) له فقال : يا مسيب ، ارفع رأسك ، وأعلم اني راحل الى الله عز وجل في ثالث هذا اليوم .قال المسيب فبكيت ، فلما رآني الامام(عليه السلام) وأنا باك حزين قال لي :
لا تبك يا مسيب فان عليا ابني هو امامك ، ومولاك بعدي فاستمسك بولايته فانك لن تضل ما لزمته ،.قال المسيب :
الحمد لله على ذلك (القرشي عن عيون الاخبار، والبحار)
وسرى السم في بدن الامام(عليه السلام) واستدعى الامام(عليه السلام) السندي فلما مثل بين يديه أمره ان يحظر مولى له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولى غسله ، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه ، فأبى(عليه السلام) وقال : انا أهل بيت مهور نسائنا وحج صرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا وعندي كفني (القرشي عن مقاتل الطالبيين ص504،البحار 11/303)
وأحضر له السندي مولاه ، وثقل حال الامام(عليه السلام) ، وأقترب اللقاء الالهي فاستدعى الامام(عليه السلام) المسيب بن زهرة فقال له : اني على ما عرفتك من الرحيل الى الله عز وجل فاذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت ، واصفر لوني واحمر واخضر وتلون الوانا فاخبر الطاغية بوفاتي .
قال المسيب فلم أزل اراقب وعده حتى دعا بشربة فشربها ، ثم استدعاني فقال لي : يا مسيب ان هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم انه سيتولى غسلي ودفني ، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبدا ، فاذا حملت الى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها ، ولا ترفعوا قبري فوق اربعة أصابع مفرجات ، ولا تأخذوا من تربتي شيئا لتتبركوا به ، فان كل تربة لنا محرمة الا تربة جدي الحسين بن علي (عليه السلام) فان الله عز وجل جعلها شفائا لشيعتنا وأوليائنا.
قال المسيب ثم رأيت شخصا أشبه الاشخاص به جالسا الى جانبه ، وكان عهدي بسيدي الرضا (عليه السلام) وهو غلام ، فأردت أن أسأله ، فصاح بي سيدي موسى : وقال اليس قد نهيتك ، ثم ان ذلك الشخص قد غاب عني ، فجئت الى الامام(عليه السلام) واذا به جثة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر الى الرشيد بوفاته (القرشي عن عيون أخبار الرضا) .
روي ان بعض المسلمين طلبوا من الامام(عليه السلام) ان يتكلم مع بعض الشخصيات المقربة من هارون ليتوسط في اطلاق سراحه فرفض الامام(عليه السلام) وقال :
حدثني أبي عن آبائه أن الله عز وجل أوحى الى داود: يا داود انه ما أعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني ، وعرفت ذلك منه الا قطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الارض من تحته (القرشي عن تاريخ اليعقوبي 3/125)
ارسل الامام موسى الكاظم(عليه السلام)رساله الى هارون هذا نصها:
(انه لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعا الى يوم ليس له انقضاء ، وهناك يخسر المبطلون) (القرشي عن البداية والنهاية 10 /183، تاريخ بغداد)
وأنفذ هارون الى الامام(عليه السلام) جاريه بارعة الجمال بيد أحد خواصه لتتولى خدمة الامام(عليه السلام) عسى أن يفتتن بها ، فلما وصلت اليه ، قال(عليه السلام) لمبعوث هارون : قل لهارون:
بل أنتم بهديتكم تفرحون ، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها .
فرجع الرسول ومعه الجارية وأبلغ هارون قول الامام(عليه السلام) ، فالتاع غضبا وقال له : ارجع اليه وقل له : ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخدمناك واترك الجارية عنده ، وانصرف .
فرجع ذلك الشخص وترك الجارية عند الإمام(عليه السلام) وأبلغه بمقالته ، وأنفذ هارون خادما له الى السجن ليتفحص عن حال الجارية ، فلما انتهى إليها رآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها وهي تقول في سجودها (قدوس، قدوس) فمضى الخادم مسرعا فأخبره بحالها ، فقال هارون : سحرها والله موسى بن جعفر ، علي بها ، فجيء بها إليه وهي ترتعد قد شخصت ببصرها نحو السماء وهي تذكر الله وتمجده ، فقال لها هارون : ما شأنك ، فقالت: شأني الشأن البديع ، إني كنت عنده واقفة ، وهو قائم يصلي ليله ونهاره ، فلما انصرف من صلاته قلت له: هل لك حاجة أعطيكها ، فقال الإمام(عليه السلام):
وما حاجتي إليك
قلت إني أدخلت عليك لحوائجك ، قال الإمام(عليه السلام):
فما بال هؤلاء ــ وأشار بيده الى جهة ــ فالتفت فإذا ، روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري ، ولا أولها من آخرها ، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها وصائف و وصايف لم أر مثل وجوههن حسنا ، ولا مثل لباسهن لباسا ، عليهم الحرير الأخضر ، والأكاليل والدر والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ، ومن كل الطعام فخرت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت ، فقال لها هارون وقد أترعت نفسه بالحقد : يا خبيثة لعلك سجدت ، فنمت فرأيت هذا في منامك ، قالت : لا والله يا سيدي ، رأيت هذا قبل سجودي ، فسجدت من أجل ذلك ، فالتفت هارون الى خادمه وأمره باعتقال الجارية وإخفاء الحادث لئلا يسمعه أحد من الناس فأخذها الخادم ، واعتقلها عنده ، فأقبلت على العبادة والصلاة ، فاذا سئلت عن ذلك قالت : هكذا رأيت العبد الصالح ،(وقالت اني لما عاينت من الامر نادتني الجواري يا فلانه ، ابعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه فنحن له دونك ، وبقيت عاكفة على العبادة حتى لحقت بالرفيق الاعلى(القرشي عن المناقب 2/263ـ264)).
نعم كل هذه الدلائل والبراهين والكرامات ... لم يستجب لها الطاغية العباسي بل انه رفض تحمل عودة مكائده الى نحره فعزم على قتل الامام(عليه السلام) فدعا برطب فأكل منه ، ثم أخذ اناءا فوضع فيه عشرين رطبة ، وأخذ سلكا فعركه في السم ، وأدخله في سم الخياط ، وأخذ رطبة من ذلك الرطب فوضعها في ذلك السلك وأخرجه منها حتى تكللت بالسم ، ووضعها في ذلك الرطب ، وقال لخادمه:
احمله الى موسى بن جعفر ، وقل له : ان امير المؤمنين أكل من هذا الرطب وهو يقسم عليك بحقه لما أكلته عن آخره ، فأني أخترتها لك بيدي ، ولا تتركه يبقى منه شيئا ، ولا يطعم منه احدا ، فحمل الخادم الرطب وجاء الى الامام(عليه السلام) ، وابلغه برسالة هارون فأمره (عليه السلام) ان يأتيه بخلال ، فجاء به اليه ، وقام بإزائه ، فاخذ الامام(عليه السلام)يأكل من الرطب ، وكانت للرشيد كلبة عزيزه عنده ، فجذبت نفسها وخرجت تجر بسلاسلها الذهبية حتى حاذت الامام(عليه السلام) فبادر(عليه السلام) بالخلال الى الرطبة المسمومة ورمى بها الى الكلبة فأكلتها فلم تلبث ان ضربت بنفسها الارض وماتت ، واستوفى الامام(عليه السلام)باقي الرطب وحمل الغلام الاناء الى الرشيد ، فلما راه بادره قائلا : نعم يا أمير المؤمنين ، قال هارون : كيف رأيته ، قال الخادم : ما أنكرت منه شيئا ، ثم قص عليه حديث الكلبة وموتها فاضطرب الرشيد وقام بنفسه فأشرف عليها فرآها وقد تهترت وتقطعت من السم فوقف مذهولا قد مشت الرعدة بأوصاله وقال:ـ ما ربحنا من موسى الا ان اطعمناه جيد الرطب وضيعنا سمنا وقتلنا كلبتنا ما في موسى حيلة (القرشي عن البحار 11/299)
وبعد ذلك استدعى وزيره يحيى بن خالد البرمكي فقال له : يا ابا علي أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب ؟ الا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيرا تريحنا من غمه ، فقال يحيى : الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمن عليه وتصل رحمه فقد والله أفسد علينا قلوب شيعتنا ، فقال هارون انطلق اليه واطلق عنه الحديد وابلغه عني السلام وقل له: يقول لك ابن عمك انه قد سبق مني فيك يمين اني لا أخليك حتى تقر لي بالإساءة وتسألني العفو عما سلف منك وليس عليك في اقرارك عار ولا في مسألتك اياي منقصة ، وهذا يحيى بن خالد ثقتي ووزيري وصاحب أمري فاسأله بقدر ما أخرج من يميني ،فلما مثل يحيى عند الامام(عليه السلام) وأخبره بمقالة هارون انبرى (عليه السلام)اليه
ــ اولاــ فاخبره بما يجري عليه وعلى اسرته من زوال النعمة على يد هارون ، وحذره من بطشه ، ثم رد(عليه السلام)
ــ ثانيا ــ على مقالة هارون فقال(عليه السلام) له :ـ يا أبا علي أبلغه عني ، يقول لك موسى بن جعفر يأتيك رسولي يوم الجمعة فيخبرك بما ترى ــ اي بموته ــ وستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه ، وخرج يحيى ، فأخبر هارون بمقالته ، فقال مستهزئا وساخرا: ان لم يدع النبوة بعد ايام فما أحسن حالنا (القرش عن البحار 11/301ـ302)
8ـ الامام ينعى نفسه
بعد اقتراب لقاء الامام(عليه السلام)بربه نعى نفسه المقدسة لشيعته وذلك في جوابه على المسائل التي بعثها علي بن سويد ، فقد جاء في الجواب بعد البسملة ما نصه:
(الحمد لله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره ابصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والارض اليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والاديان المتضادة، فمصيب ومخطئ وضال ومهتدي وسميع وأصم وبصير واعمى حيران، فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه محمد(ص) اما بعد:
فانك امرؤ ـ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة ، وحفظ مودة ما استرعاك من دينه ، وما ألهمك من رشدك وبصرك من أمر دينك بتفضيلك اياهم وبردك الأمور اليهم ، كتبت الي تسألني عن أمور كنت منها في تقية ومن كتمانها في سعة فلما انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة الى أهلها العتاة على خالقهم رأيت أن أفسر لك ما سألتني عنه مخافة أن تدخل الحيرة على ضعاف شيعتنا من قبل جهالهم فاتق الله عز ذكره ، وخص بذلك الأمر أهله واحذر أن تكون سبب بلية على الاوصياء أو حارشا عليهم بإفشاء ما استودعتك ، واظهار ما استكتمتك وال تفعل ان شاء الله .ان أول ما أنهى اليك اني أنعى اليك نفسي في ليالي هذه غير جازع ولا نادم ولا شاك فيما هو كائن مما قد قضى الله عز وجل وختم ، فاستمسك بعروة الدين ،آل محمد العروة الوثقى الوصي بعد الوصي ، والمسالمة لهم والرضا بما قالوا ، ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك ولا تحبن دينهم فانهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ،أو تدري ما خانوا أماناتهم ؟ ائتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه ودلوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وسألت عن رجلين اغتصبا رجلا مالا كان ينفقه على الفقراء والمساكين وابناء السبيل وفي سبيل الله فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حملاه اياه كرها فوق رقبته الى منازلهما فلما أحرزاه توليا انفاقه أيبلغان بذلك كفرا؟
فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا على الله عز وجل كلامه وهزئا برسوله(ص) وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، والله ما دخل قلب أحد منهما شيء من الايمان منذ خروجهما من حالتيهما ، وما زادا الا شكا ، كانا خداعين مرتابين منافقين حتى توفتهما ملائكة العذاب الى محل الخزي في دار المقام وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبته منهم عارف ومنكر فأولئك اهل الردة الاولى من هذه الامة فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ،وسألت عن مبلغ علمنا ،وهو على ثلاثة وجوه ماض وغابر وحادث فأما الماضي فمفسر واما الغابر فمزبور واما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الاسماع وهو أفضل علمنا ، ولا نبي بعد نبينا محمد(ص) وسألت عن امهات أولادهم وعن نكاحهم وعن طلاقهم ،فأما امهات أولادهم فهن عواهر الى يوم القيامة نكاح بغير ولي وطلاق في غير عدة ، وأما من دخل في دعوتنا فقد هدم ايمانه ضلاله ويقينه شكه ، وسألت عن الزكاة فيهم فما كان من الزكاة فانتم أحق به لأنا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان ، وسألت عن الضعفاء فالضعيف من لم يرفع اليه حجة ، ولم يعرف الاختلاف ، فاذا عرف الاختلاف فليس بضعيف ، وسألت عن الشهادة لهم ، فأقم الشهادة لله عز وجل ولو على نفسك والوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم فان خفت على أخيك ضيما فلا وادع الى شرائط الله عز ذكره من رجوت اجابته ولا تحصن بحصن رياء ، ووال آل محمد ولا تقل لما بلغك عنا ونسب الينا هذا باطلا وان كنت تعرف منا خلافه فانك لا تدري لما قلناه وعلى أي وجه وضعناه ، آمن بما اخبرك ، ولا تفش بما استكتمناك من خبرك ، ان من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه وآخرته ولا تحقد عليه وان أساء وأجب دعوته اذا دعاك ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وان كان أقرب اليه منك وعده في مرضه ، وليس من أخلاق المؤمن الغش ولا الأذى ، ولا الخيانة ولا الكبر ولا الخنا ولا الفحش ولا الأمر به ، فاذا رأيت المشوه الاعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين ، واذا انكسفت الشمس فارفع بصرك الى السماء وانظر ما فعل الله بالمجرمين ، فقد فسرت لك جملا مجملا ، وصلى الله على محمد وآله الاخيار..)
(القرشي عن روضة الكافي ص124ـ126) (هنالك تفسير لهذه الرسالة في مرآة العقول)
9ـ جريمة القتل
اخيرا عمد اللعين هارون العباسي الى رطب فوضع فيه سما فاتكا وامر السندي ان يقدمه للإمام(عليه السلام) ويحتم عليه ان يتناول منه (القرشي عن الدمعة الساكبة نقلا عن عيون الاخبار)
وقيل ان هارون أوعز الى السندي في ذلك، فأخذ رطبا ووضع فيه السم وقدمه للإمام(عليه السلام) فأكل منه عشر رطبات ، فقال له السندي زد على ذلك ، فرمقه الامام(عليه السلام) بطرفه وقال له :
حسبك قد بلغت ما تحتاج اليه (القرشي عن البحار )
وهنالك أقوال أخرى فيمن تولى سم الامام(عليه السلام):
ففي كتاب فرق الشيعة / ص89 : ان يحيى بن خالد البرمكي هو الذي سم الامام(عليه السلام) ، وكذلك في كتاب رجال الكشي ص371 ، في رواية عن عبدالله بن طاووس قال : سألت الامام الرضا(عليه السلام) قلت له : هل ان يحيى بن خالد سم أباك موسى بن جعفر ؟ فقال الامام الرضا (عليه السلام):
نعم سمه في ثلاثين رطبة مسمومة
وعن ابو الفرج الاصفهاني ان يحيى البرمكي أمر السندي بقتل الامام(عليه السلام)بعد حادثة غضب هارون على الفضل بن يحيى (القرشي عن مقاتل الطالبيين ص504)وفي كتاب عيون أخبار الرضا ان الفضل بن يحيى هو من سم الامام(عليه السلام)
وبعد ان اقدم السندي على ارتكاب جريمته اضطرب اضطرابا شديدا، واستدعى الوجوه والشخصيات وكانوا ثمانين شخصا وقال لهم: انظروا الى هذا الرجل هل حدث به حدث ؟ فان الناس يزعمون انه قد فعل به مكروه ، ويكثرون من ذلك ، وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق ، ولم يرد به أمير المؤمنين سوئا وانما ينتظره ان يقدم عليه فيناظره ، وها هو ذا موسع عليه في جميع اموره فاسألوه ، يقول أحد الشهود وهو من شيوخ العامة: ولم يكن لنا هم سوى مشاهدة الامام(عليه السلام) ومقابلته فلما دنونا منه لم نر مثله قط في فضله ونسكه فانبرى الينا وقال لنا :
أما ما ذكر من التوسعة ، وما أشبه ذلك ، فهو على ما ذكر ، غير اني أخبركم ايها النفر اني قد سقيت السم في تسع تمرات ، واني أصفر غدا ، وبعد غد أموت .
ولما سمع السندي ذلك انهارت قواه ، ومشت الرعدة في أوصاله واضطرب مثل السعفة التي تلعب بها الرياح العاصفة (القرشي عن روضة الواعظين ص185ـ186، وعيون الاخبار ، والامالي)
وجاء في البحار ان الامام(عليه السلام) التفت الى الشهود ، فقال لهم :
اشهدوا على اني مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام ، اشهدوا أني صحيح الظاهر ، لكني مسموم وسأحمر في هذا اليوم حمرة شديدة وأبيض بعد غد ، وأمضي الى رحمة الله ورضوانه ، فمضى (عليه السلام) كما قال : في آخر اليوم الثالث
وجاء في قرب الاسناد للحميري انه(عليه السلام) قال للشهود :
اني سقيت السم في سبع تمرات
ومن بركات مولانا الامام الكاظم (عليه السلام)هدايته للمسيب بن زهرة )[احد رجال دولة بني العباس فقد خدمهم من عهد الدوانيقي الى هارون] (القرشي عن الجهشياري ص97)
وقد استدعاه مولانا الكاظم(عليه السلام) قبل استشهاده بثلاثة ايام ، فلما مثل عنده قال(عليه السلام) له: يا مسيب . فقال المسيب : لبيك يا مولاي .
قال (عليه السلام): اني ظاعن في هذه الليلة الى المدينة ، مدينة جدي رسول الله (ص) لأعهد الى علي ابني ما عهده الي آبائي ، وأجعله وصيي وخليفتي ، وآمره بأمري . قال المسيب : يا مولاي ، كيف تأمرني أن أفتح لك الابواب وأقفالها والحرس معي على الابواب ؟ فقال الامام(عليه السلام) : يا مسيب ضعف يقينك في الله عز وجل وفينا ؟ قال المسيب : لا، يا سيدي ادع الله ان يثبتني . فقال الامام(عليه السلام) :
اللهم ثبته ، ثم قال (عليه السلام):
ادعو الله باسمه العظيم الذي دعا به آصف حين جاء بسرير بلقيس فوضعه بن يدي سليمان قبل ارتداد طرفه اليه ، حتى يجمع بيني وبين علي ابني بالمدينة ، قال المسيب فسمعته يدعوا ، ففقدته عن مصلاه فلم ازل قائما على قدمي حتى رأيته قد عاد الى مكانه واعاد الحديد الى رجليه ، فوقعت على وجهي ساجدا شاكرا لله على ما أنعم به علي من معرفته والتفت الامام (عليه السلام) له فقال : يا مسيب ، ارفع رأسك ، وأعلم اني راحل الى الله عز وجل في ثالث هذا اليوم .قال المسيب فبكيت ، فلما رآني الامام(عليه السلام) وأنا باك حزين قال لي :
لا تبك يا مسيب فان عليا ابني هو امامك ، ومولاك بعدي فاستمسك بولايته فانك لن تضل ما لزمته ،.قال المسيب :
الحمد لله على ذلك (القرشي عن عيون الاخبار، والبحار)
وسرى السم في بدن الامام(عليه السلام) واستدعى الامام(عليه السلام) السندي فلما مثل بين يديه أمره ان يحظر مولى له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولى غسله ، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه ، فأبى(عليه السلام) وقال : انا أهل بيت مهور نسائنا وحج صرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا وعندي كفني (القرشي عن مقاتل الطالبيين ص504،البحار 11/303)
وأحضر له السندي مولاه ، وثقل حال الامام(عليه السلام) ، وأقترب اللقاء الالهي فاستدعى الامام(عليه السلام) المسيب بن زهرة فقال له : اني على ما عرفتك من الرحيل الى الله عز وجل فاذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت ، واصفر لوني واحمر واخضر وتلون الوانا فاخبر الطاغية بوفاتي .
قال المسيب فلم أزل اراقب وعده حتى دعا بشربة فشربها ، ثم استدعاني فقال لي : يا مسيب ان هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم انه سيتولى غسلي ودفني ، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبدا ، فاذا حملت الى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها ، ولا ترفعوا قبري فوق اربعة أصابع مفرجات ، ولا تأخذوا من تربتي شيئا لتتبركوا به ، فان كل تربة لنا محرمة الا تربة جدي الحسين بن علي (عليه السلام) فان الله عز وجل جعلها شفائا لشيعتنا وأوليائنا.
قال المسيب ثم رأيت شخصا أشبه الاشخاص به جالسا الى جانبه ، وكان عهدي بسيدي الرضا (عليه السلام) وهو غلام ، فأردت أن أسأله ، فصاح بي سيدي موسى : وقال اليس قد نهيتك ، ثم ان ذلك الشخص قد غاب عني ، فجئت الى الامام(عليه السلام) واذا به جثة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر الى الرشيد بوفاته (القرشي عن عيون أخبار الرضا) .
10ـ الشهادة
المشهور ان استشهاد الامام(عليه السلام) كان في يوم الجمعة سنة 173 هجريه لخمس بقين من شهر رجب الاصب (الشيخ باقر القرشي عن ابن خلكان 2/173 ، تاريخ بغداد 13/32 ، الطبري 10/70 ، ابن الاثير 6/54 ، تأريخ الخميس 2/371 ، تأريخ ابي الفداء 2/17 ، تهذيب التهذيب 10 / 340 ، ميزان الاعتدال 3/209 ، عمدة الطالب...ص85 )
عن عمر يقارب ال54 عام (القرشي عن المناقب)
وكان مقامه(عليه السلام) منها مع ابيه(عليه السلام) عشرين سنة وبعد ابيه(عليه السلام) خمسا وثلاثين سنة (القرشي عن الفصول المهمة ص255)
والمشهور ان استشهاد الامام(عليه السلام) كان في حبس السندي بن شاهك وقيل في دار المسيب بن زهرة بباب الكوفة الذي تقع فيه السدرة (القرشي عن البحار 11/300) وقامت السلطات العباسية بأجراء ما يسمى بتحقيق في هذه الحادثة من قبل السندي اولا وهارون ثانيا للتغطية على هذه الجريمة البشعة ، ولكن هيهات فالطاغية العباسي وأتباعه لم يكتفي بالقتل بل عمد الى الانحدار اكثر في بحر الخسة والرذيلة ، فقد أمر اللعين بوضع الجنازة المقدسة على جسر الرصافة وان ينادوا على جثمان امامنا الطاهر بذلك النداء المؤلم (القرشي عن اخبار الرضا ،البحار)
ولما سمع سليمان بن ابي جعفر الدوانيقي الصياح والضوضاء التفت الى ولده وغلمانه قائلا ما لخبر ، فقالوا له هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر وأخبروه بذلك النداء ، فصاح بولده :ـ انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم ، فان مانعوكم فأضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد ، فانطلق ابناء سليمان وغلمانه وأخذوا الجنازة وعادوا اليه ، وأمر بالوقت ان ينادي بنداء معاكس لنداء السندي ، فانطلق غلمانه رافعين أصواتهم بهذا النداء :ـ الا من أراد أن يحظر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحظر(القرشي عن البحار، عيون أخبار الرضا )
وجاء في مناقب ابن شهر آشوب 2/386 ، ان سليمان كان في دهليزه في يوم ممطر اذ مرت به جنازة الامام(عليه السلام) فقال : سلوا هذه جنازة من ؟ فقيل هذا موسى بن جعفر مات في الحبس قد أمر الرشيد ان يدفن بحاله ، فقال سليمان : موسى بن جعفر يدفن هكذا ؟ فان في الدنيا من كان يخاف على الملك في الاخرى لا يوفى حقه) وقام سليمان بتجهيز الامام (عليه السلام) فغسله وكفنه ، ولفه بحبرة قد كتب عليها القرآن الكريم بأسره كلفته الفين وخمسمائة دينار(القرشي عن المناقب2/387) وحدث المسيب بن زهره ، قال: والله لقد رأيت القوم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه فلا تصل أيديهم اليه ويظنون انهم يحنطونه ويكفنونه وأراهم انهم لا يصنعون شيئا ، ورأيت ذلك الشخص الذي حظر وفاته ــ الامام الرضا(عليه السلام) ــ هو الذي يتولى غسله وتحنيطه وتكفينه ، وهو يظهر المعاونة لهم ، وهم لا يعرفونه فلما فرغ من أمره التفت الي وقال :
يا مسيب مهما شككت في شيء فلا تشكن في ، فأني امامك ومولاك وحجة الله عليك بعد أبي ، يا مسيب مثلي مثل يوسف الصديق ومثلهم مثل اخوته حين دخلوا عليه وهم له منكرون ( القرشي عن عيون أخبار الرضا) وبعد انتهاء الغسل حمل جثمان الامام(عليه السلام) الى مثواه الاخير بتشييع مهيب يتقدمهم سليمان وباقي كبار الدولة ، وجمع غفير من الناس بعد ان هرعت بغداد لتشييع الامام(عليه السلام) على اختلاف مشاربهم ، وانشد بعض الشعراء (القرشي عن الاتحاف بحب الاشراف ص57) فقال:ـ
قد قلت للرجل المولى غسله *** هلا أطعت وكنت من نصائحه
جنبه مائك ثــم غســـــله بما *** أذرت عيون المجد عند بكائــه
وأزل أفاويه الحنوط ونحـها *** عنه وحنـطه بطيب ثنائـــــــــه
ومر الملائكـة الكرام بحملـه *** كرما الست تراهم بإزائــــــــه
لاتوه أعناق الرجال بحملــه *** يكفي الذي حملوه من نعمائـــه
وسارت المواكب متجهة الى محلة التبن قرب مقابر قريش لدفن الجثمان الطاهر لمولانا موسى الكاظم عليه أفضل الصلاة واتم التسليم
سابعا ـ خاتمة البحث
شكرا لله الذي اكرمنا بوليه السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر احد احفاد امامنا الكاظم (عليه السلام) ويشرفني ان اختم هذا البحث بجملة من درره لتكون خاتمة للبحث ، قال سيدنا الشهيد محمد محمد صادق الصدر في الخطبة الأولى / الجمعة 31 في 23/ رجب / 1419هجـ ـ 13 تشرين الثاني 1988م):
.. فان اشهر ما مر به الامام الكاظم (عليه السلام) هو السجون التي عاناها من قبل الظالمين في عصره فقد استمر يتقلب في السجون مدة أربعة عشر سنة أو اكثر حتى مات في السجن ولم يشم نسيم الحرية طيلة حياته حيث قتلوه مظلوما مسموما قتله سرجون عصره وفي كل عصر يوجد سرجون أو سراجين ـ على اية حال ـ وانا قلت اكثر من مرة ان في كل شيء وموعظة ونحن تكليفنا ان ننظر في العبر المستفادة من الأشياء ونمحصها لا ان نغفل عنها ونهملها كما قال الله تعالى :
((وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ))(سورة يوسف/ الآية 105 )
فلنحاول الان بمقدار الإمكان ـ طبعاـ استخلاص العبر والخلاصات التي يمكننا التوصل اليها من حصول السجن الطويل للإمام الكاظم(عليه السلام) مع الالتفات بوضوح أن كل موعظة منها هو باب واسع يمكن أن ينطبق في كل مكان وزمان وهذا ما لا يمكن استقصاؤه واحدة واحدة طبعا انتم تلاحظوه .
وأن قول القرآن وفعل المعصومين هو هداية لنا وكأنه خاص بمجتمعنا ومكاننا وزماننا وان كان هو في نفس الوقت شاملا لغيرنا ونفس هذا الشعور سيكون صادقا في أي مجتمع وفي أي زمان وهذا من معجزات الإسلام على الحقيقة وما يمكن بيانه من العبر كما يلي:
أولا:
ان اعتداء الدولة ـ وهذا ينبغي ان يكون واضحا ـ الظالمة يومئذ على الإمام(عليه السلام) طبعا احتقار له وتحدي له بصفته هو القائد الأهم والزعيم الأعظم لعدد مهم من المسلمين وطائفة ضحمة منهم ـ أي من المسلمين ـ مشهود لهم بالصحة والرجاحة اذن فاحتقاره احتقار لهم ـ للطائفة نفسها والاعتداء عليه اعتداء عليها والتحدي له تحدي لها وليس على فرد واحد في الحقيقة وان بدا في الظاهر هكذا الا انه تحدي لمذهب كامل في الإسلام.
ثانيا:
انه بصفته من أولياء الله واصفيائه والمبلغين لاحكامه والحاملين الى البشرية هدايته ونوره ، الا نسمع في زيارته يا نور الله في ظلمات الأرض .
اذن فيكون الاعتداء عليه والاحتقار له وتحديه اعتداء ًعلى الله واحتقارا له وتحديا له ـ والعياذ بالله ـ وليس فقط على الطائفة .
ثالثا :
ان الدولة حين سجنته وقتلته فقد حرمت المجتمع من علمه ولطفه وقيادته .
وما كان يقوم به من جهود وجهاد في سبيل تقويمه ـ أي تقويم المجتمع ـ وتنويره وحفظ شؤون شيعته ومواليه ، والدولة في ذلك الحين ملتفتة الى ذلك عالمة وعامدة لذلك مع شديد الأسف .
رابعا :
ان ائمتنا(عليهم السلام) كانوا يقومون في حدود امكاناتهم المتاحة بكثير من الاعمال والاتصالات التي كانت الدولة في ذلك الحين تتحذر منها وتعتبرها تحديا لسلطانها والروايات في ذلك طافحة ومتوفرة ومتيسرة . ومن هنا كان من المنطقي ان تجد الدولة من وجهة نظرها لوم التخلص من هذا القائد والقائه في غياهب السجون ولا تخرجه الا ان يموت لكي لا تبتلي بعمله وجهده وجهاده مرارا وتكرارا.
خامساـ
اننا نعلم ان بلاء الدنيا كلما ازداد ، ازداد ثوب الآخرة لامحالة ـ ونعلم ان اشد الناس بلاءً في الدنيا (((وهذا في الروايات واضح))هم الأنبياء ثم الأمثل فالامثل ـ وتنه كلما زاد الانسان شهرة ازداد بلاءًوامتحانا وهذا أيضا حكمة نوجودة .
ومن هنا كان لابد في الحكمة الإلهية ان يمر المعصومين (عليهم السلام) بفترات من البلاء على اختلاف ذلك فيما بينهم فبينما يموت الامام الحسين(عليه السلام)قتلا يموت الامام الحسن(عليه السلام)بالسم ويموت الامام الكاظم (عليه السلام)بالسجن وهكذا . وليس ذلك الا لعلوا مقامهم وازدياد درجاتهم كما ورد في الحسين(عليه السلام)((أن لك عند الله درجات لاتنالها الا بالشهادة))
سادساـ
أنهم(عليهم السلام) تلقوا كل ذلك من البلاء الدنيوي بالرضا والتسليم من الله سبحانه وتعالى بل بالحب والقبول كما لو كان هدية لطيفة تهدى لهم بها دلائل وروايات احبائي .
اليس قال امير المؤمنين (عليه السلام)حين ضرب في المحراب ، ماذا قال ؟ قال:
فزت ورب الكعبة وقال الحسين بعرصة كربلاء :
هون مانزل بي انه بعين الله .
فقط هم ؟ وقال ابوذر وهو في الربذة حيث اشتد به البلاء يخاطب الله جل جلاله : اخنق خنقتك يعني ضيق عليَّ بما تشاء فانك تعلم اني احب لقائك . وقال الامام الكاظم(عليه السلام) الذي نتحدث عنه الآن في سجنه
اللهم انك تعلم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك اللهم وقد فعلت فلك الحمد .
سابعاـ
ان في ود المؤمن المتكامل ان يتوجه بقلبه الى الله تعالى وان يكثر ذكره وتتزايد عنده عبادته وهذا مالاتتوفر فرصته حين يكون الفرد في معمعة المجتمع وفي الاتصال الكثير في الناس وانما تحصل فرصة ذلك لدى الوحدة والابتعاد عن الناس ، وكيف تحصل الوحدة وقد اوجب الله تعالى على المؤمن الامر بالمعروف وتبليغ الاحكام وهداية الناس .
اذن فالوحدة في مثل ذلك والابتعاد بهذا المعنى حرام واسقاط للطاعة الالهية بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهداية الآخرين واما اذا كان الانسان في السجن فيكون فارغ الذمة من جانب الامر بالمعروف والتبليغ ويكون مبتعدا عن المجتمع قهرا .
اذن فالمؤمن يرى السجن من هذه الناحية نعمة ورحمة عليه لكي يتفرغ فيه لذكر الله وطاعته وعبادته كما سمعنا من الامام الكاظم(عليه السلام) يقول :
اللهم انك تعلم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك اللهم وقد فعلت فلك الحمد
ثامناـ
ان الحجة قائمة بوضوح ضد ساجنيه ، وضد الدولة التي سجنته لانها سجنت عبدا صالحا ووليا من أولياء الله وهم يعلمون ذلك طبعا ، يكفيهم منم ذلك مايرونه دائما منه من كثرة العبادة والتهجد وقيام الليل وصيام النهار حتى ان عددا من ساجنيه كخالد بن يحيى البرمكي وغيره حاول التخلص والتملص من مسؤولية سجنه لما يرون من فضله وعلو شأنه وهذا هو السبب الرئيسي فيما أرى في نقله من سجن الى سجن ، لان السجان كان يرفض استمرار سجنه عنده الى ان وصل الى سجن السندي بن شاهك ـ عليه اللعنة ـ الذي لم يكن يشعر بهذه المسؤولية ـ قبحه الله ولعنه ـ .
تاسعاـ
ليس هذا فقط بل كان الفراشون والمباشرون له في السجن يصبحون اتقياء وأولياء في ليلة وضحاها بهداية الامام(عليه لسلام)وعمله حتى انه روي أنهم جعلوا له امرأة خليعة لكي تخدمه فاصبحت في يوم واحد زاهدة وعابدة
عاشراـ
أنه ـ الامام الكاظم(عليه السلام)ـ تحرر من السجن ، اطلق سراحه الى الحرية الحقيقية بموته مظلوما وليس الى الدنيا كما هو العادة فيمن يطلق سراحهم فانه اذا اطلق سراحه في الدنيا سيكون قد خرج من سجن الى سجن لان( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) أما اذا ذهب الى ربه ومقاماته العليا فقد نال الحرية الحقيقية من اضيق السجون .
ومن هنا ورد ان هارون العباسي ولا اريد ان اسميه الرشيد لانه ليس برشيد . ليس برشيد . ليس برشيد . ارسل اليه يطلب منه مجرد الاعتذار لكي يطلق سراحه ـ بمعنى أن يعتذر الامام لهارون ويطلق هارون سراح الامام ـ فقال الامام(عليه السلام):
قال له ـ مخاطبا الرسول ـ إن أي يوم يمضي فانه يقلل من أيام بلائي كما انه سيقلل من أيام سعادتك وملكك ـ أي سعادته بالخلافة والدنيا والمستوسقة له(انتهى )
نعم تعسا للطغاة فها هو المكان الذي دفن به الجسد الطاهر لمولانا الامام الكاظم(عليه السلام) اصبح روضة من رياض الجنة يغاث فيها الملهوف وينفس فيها عن المكروب ،وتهوي اليه القلوب قبل الابدان من جميع الاصقاع والبلدان ، وجعله الله تعالى شأنه باب لقضاء الحوائج ورمزا للحرية والاباء والتضحية والاخلاص ...، وما إن تأتي ذكرى الخامس والعشرين من رجب إلا وأنت ترى الملايين من المحبين يزحفون زرافات، زرافات نحو الكاظمين المقدسين حاملين نعوشا رمزيه معلنيها صرخة مدوية تهز الكون بأننا على العهد باقين وبأننا لن نبتغي بكم يا أهل البيت بدلا فانتم نعمة الله العظيمة علينا وعلى العالمين ،وأن لا مكان للطواغيت والظالمين في ارض الله مهما طالت السنين .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وعجل اللهم فرجهم والعن عدوهم.
من مصادر ومراجع المبحث:ـ
1ـ حياة الامام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، للشيخ باقر شريف القرشي ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ط3/ 1398هج
2ـ سيرة الأئمة الاثني عشر(عليه السلام) السيد هاشم معروف الحسني
المشهور ان استشهاد الامام(عليه السلام) كان في يوم الجمعة سنة 173 هجريه لخمس بقين من شهر رجب الاصب (الشيخ باقر القرشي عن ابن خلكان 2/173 ، تاريخ بغداد 13/32 ، الطبري 10/70 ، ابن الاثير 6/54 ، تأريخ الخميس 2/371 ، تأريخ ابي الفداء 2/17 ، تهذيب التهذيب 10 / 340 ، ميزان الاعتدال 3/209 ، عمدة الطالب...ص85 )
عن عمر يقارب ال54 عام (القرشي عن المناقب)
وكان مقامه(عليه السلام) منها مع ابيه(عليه السلام) عشرين سنة وبعد ابيه(عليه السلام) خمسا وثلاثين سنة (القرشي عن الفصول المهمة ص255)
والمشهور ان استشهاد الامام(عليه السلام) كان في حبس السندي بن شاهك وقيل في دار المسيب بن زهرة بباب الكوفة الذي تقع فيه السدرة (القرشي عن البحار 11/300) وقامت السلطات العباسية بأجراء ما يسمى بتحقيق في هذه الحادثة من قبل السندي اولا وهارون ثانيا للتغطية على هذه الجريمة البشعة ، ولكن هيهات فالطاغية العباسي وأتباعه لم يكتفي بالقتل بل عمد الى الانحدار اكثر في بحر الخسة والرذيلة ، فقد أمر اللعين بوضع الجنازة المقدسة على جسر الرصافة وان ينادوا على جثمان امامنا الطاهر بذلك النداء المؤلم (القرشي عن اخبار الرضا ،البحار)
ولما سمع سليمان بن ابي جعفر الدوانيقي الصياح والضوضاء التفت الى ولده وغلمانه قائلا ما لخبر ، فقالوا له هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر وأخبروه بذلك النداء ، فصاح بولده :ـ انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم ، فان مانعوكم فأضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد ، فانطلق ابناء سليمان وغلمانه وأخذوا الجنازة وعادوا اليه ، وأمر بالوقت ان ينادي بنداء معاكس لنداء السندي ، فانطلق غلمانه رافعين أصواتهم بهذا النداء :ـ الا من أراد أن يحظر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحظر(القرشي عن البحار، عيون أخبار الرضا )
وجاء في مناقب ابن شهر آشوب 2/386 ، ان سليمان كان في دهليزه في يوم ممطر اذ مرت به جنازة الامام(عليه السلام) فقال : سلوا هذه جنازة من ؟ فقيل هذا موسى بن جعفر مات في الحبس قد أمر الرشيد ان يدفن بحاله ، فقال سليمان : موسى بن جعفر يدفن هكذا ؟ فان في الدنيا من كان يخاف على الملك في الاخرى لا يوفى حقه) وقام سليمان بتجهيز الامام (عليه السلام) فغسله وكفنه ، ولفه بحبرة قد كتب عليها القرآن الكريم بأسره كلفته الفين وخمسمائة دينار(القرشي عن المناقب2/387) وحدث المسيب بن زهره ، قال: والله لقد رأيت القوم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه فلا تصل أيديهم اليه ويظنون انهم يحنطونه ويكفنونه وأراهم انهم لا يصنعون شيئا ، ورأيت ذلك الشخص الذي حظر وفاته ــ الامام الرضا(عليه السلام) ــ هو الذي يتولى غسله وتحنيطه وتكفينه ، وهو يظهر المعاونة لهم ، وهم لا يعرفونه فلما فرغ من أمره التفت الي وقال :
يا مسيب مهما شككت في شيء فلا تشكن في ، فأني امامك ومولاك وحجة الله عليك بعد أبي ، يا مسيب مثلي مثل يوسف الصديق ومثلهم مثل اخوته حين دخلوا عليه وهم له منكرون ( القرشي عن عيون أخبار الرضا) وبعد انتهاء الغسل حمل جثمان الامام(عليه السلام) الى مثواه الاخير بتشييع مهيب يتقدمهم سليمان وباقي كبار الدولة ، وجمع غفير من الناس بعد ان هرعت بغداد لتشييع الامام(عليه السلام) على اختلاف مشاربهم ، وانشد بعض الشعراء (القرشي عن الاتحاف بحب الاشراف ص57) فقال:ـ
قد قلت للرجل المولى غسله *** هلا أطعت وكنت من نصائحه
جنبه مائك ثــم غســـــله بما *** أذرت عيون المجد عند بكائــه
وأزل أفاويه الحنوط ونحـها *** عنه وحنـطه بطيب ثنائـــــــــه
ومر الملائكـة الكرام بحملـه *** كرما الست تراهم بإزائــــــــه
لاتوه أعناق الرجال بحملــه *** يكفي الذي حملوه من نعمائـــه
وسارت المواكب متجهة الى محلة التبن قرب مقابر قريش لدفن الجثمان الطاهر لمولانا موسى الكاظم عليه أفضل الصلاة واتم التسليم
سابعا ـ خاتمة البحث
شكرا لله الذي اكرمنا بوليه السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر احد احفاد امامنا الكاظم (عليه السلام) ويشرفني ان اختم هذا البحث بجملة من درره لتكون خاتمة للبحث ، قال سيدنا الشهيد محمد محمد صادق الصدر في الخطبة الأولى / الجمعة 31 في 23/ رجب / 1419هجـ ـ 13 تشرين الثاني 1988م):
.. فان اشهر ما مر به الامام الكاظم (عليه السلام) هو السجون التي عاناها من قبل الظالمين في عصره فقد استمر يتقلب في السجون مدة أربعة عشر سنة أو اكثر حتى مات في السجن ولم يشم نسيم الحرية طيلة حياته حيث قتلوه مظلوما مسموما قتله سرجون عصره وفي كل عصر يوجد سرجون أو سراجين ـ على اية حال ـ وانا قلت اكثر من مرة ان في كل شيء وموعظة ونحن تكليفنا ان ننظر في العبر المستفادة من الأشياء ونمحصها لا ان نغفل عنها ونهملها كما قال الله تعالى :
((وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ))(سورة يوسف/ الآية 105 )
فلنحاول الان بمقدار الإمكان ـ طبعاـ استخلاص العبر والخلاصات التي يمكننا التوصل اليها من حصول السجن الطويل للإمام الكاظم(عليه السلام) مع الالتفات بوضوح أن كل موعظة منها هو باب واسع يمكن أن ينطبق في كل مكان وزمان وهذا ما لا يمكن استقصاؤه واحدة واحدة طبعا انتم تلاحظوه .
وأن قول القرآن وفعل المعصومين هو هداية لنا وكأنه خاص بمجتمعنا ومكاننا وزماننا وان كان هو في نفس الوقت شاملا لغيرنا ونفس هذا الشعور سيكون صادقا في أي مجتمع وفي أي زمان وهذا من معجزات الإسلام على الحقيقة وما يمكن بيانه من العبر كما يلي:
أولا:
ان اعتداء الدولة ـ وهذا ينبغي ان يكون واضحا ـ الظالمة يومئذ على الإمام(عليه السلام) طبعا احتقار له وتحدي له بصفته هو القائد الأهم والزعيم الأعظم لعدد مهم من المسلمين وطائفة ضحمة منهم ـ أي من المسلمين ـ مشهود لهم بالصحة والرجاحة اذن فاحتقاره احتقار لهم ـ للطائفة نفسها والاعتداء عليه اعتداء عليها والتحدي له تحدي لها وليس على فرد واحد في الحقيقة وان بدا في الظاهر هكذا الا انه تحدي لمذهب كامل في الإسلام.
ثانيا:
انه بصفته من أولياء الله واصفيائه والمبلغين لاحكامه والحاملين الى البشرية هدايته ونوره ، الا نسمع في زيارته يا نور الله في ظلمات الأرض .
اذن فيكون الاعتداء عليه والاحتقار له وتحديه اعتداء ًعلى الله واحتقارا له وتحديا له ـ والعياذ بالله ـ وليس فقط على الطائفة .
ثالثا :
ان الدولة حين سجنته وقتلته فقد حرمت المجتمع من علمه ولطفه وقيادته .
وما كان يقوم به من جهود وجهاد في سبيل تقويمه ـ أي تقويم المجتمع ـ وتنويره وحفظ شؤون شيعته ومواليه ، والدولة في ذلك الحين ملتفتة الى ذلك عالمة وعامدة لذلك مع شديد الأسف .
رابعا :
ان ائمتنا(عليهم السلام) كانوا يقومون في حدود امكاناتهم المتاحة بكثير من الاعمال والاتصالات التي كانت الدولة في ذلك الحين تتحذر منها وتعتبرها تحديا لسلطانها والروايات في ذلك طافحة ومتوفرة ومتيسرة . ومن هنا كان من المنطقي ان تجد الدولة من وجهة نظرها لوم التخلص من هذا القائد والقائه في غياهب السجون ولا تخرجه الا ان يموت لكي لا تبتلي بعمله وجهده وجهاده مرارا وتكرارا.
خامساـ
اننا نعلم ان بلاء الدنيا كلما ازداد ، ازداد ثوب الآخرة لامحالة ـ ونعلم ان اشد الناس بلاءً في الدنيا (((وهذا في الروايات واضح))هم الأنبياء ثم الأمثل فالامثل ـ وتنه كلما زاد الانسان شهرة ازداد بلاءًوامتحانا وهذا أيضا حكمة نوجودة .
ومن هنا كان لابد في الحكمة الإلهية ان يمر المعصومين (عليهم السلام) بفترات من البلاء على اختلاف ذلك فيما بينهم فبينما يموت الامام الحسين(عليه السلام)قتلا يموت الامام الحسن(عليه السلام)بالسم ويموت الامام الكاظم (عليه السلام)بالسجن وهكذا . وليس ذلك الا لعلوا مقامهم وازدياد درجاتهم كما ورد في الحسين(عليه السلام)((أن لك عند الله درجات لاتنالها الا بالشهادة))
سادساـ
أنهم(عليهم السلام) تلقوا كل ذلك من البلاء الدنيوي بالرضا والتسليم من الله سبحانه وتعالى بل بالحب والقبول كما لو كان هدية لطيفة تهدى لهم بها دلائل وروايات احبائي .
اليس قال امير المؤمنين (عليه السلام)حين ضرب في المحراب ، ماذا قال ؟ قال:
فزت ورب الكعبة وقال الحسين بعرصة كربلاء :
هون مانزل بي انه بعين الله .
فقط هم ؟ وقال ابوذر وهو في الربذة حيث اشتد به البلاء يخاطب الله جل جلاله : اخنق خنقتك يعني ضيق عليَّ بما تشاء فانك تعلم اني احب لقائك . وقال الامام الكاظم(عليه السلام) الذي نتحدث عنه الآن في سجنه
اللهم انك تعلم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك اللهم وقد فعلت فلك الحمد .
سابعاـ
ان في ود المؤمن المتكامل ان يتوجه بقلبه الى الله تعالى وان يكثر ذكره وتتزايد عنده عبادته وهذا مالاتتوفر فرصته حين يكون الفرد في معمعة المجتمع وفي الاتصال الكثير في الناس وانما تحصل فرصة ذلك لدى الوحدة والابتعاد عن الناس ، وكيف تحصل الوحدة وقد اوجب الله تعالى على المؤمن الامر بالمعروف وتبليغ الاحكام وهداية الناس .
اذن فالوحدة في مثل ذلك والابتعاد بهذا المعنى حرام واسقاط للطاعة الالهية بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهداية الآخرين واما اذا كان الانسان في السجن فيكون فارغ الذمة من جانب الامر بالمعروف والتبليغ ويكون مبتعدا عن المجتمع قهرا .
اذن فالمؤمن يرى السجن من هذه الناحية نعمة ورحمة عليه لكي يتفرغ فيه لذكر الله وطاعته وعبادته كما سمعنا من الامام الكاظم(عليه السلام) يقول :
اللهم انك تعلم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك اللهم وقد فعلت فلك الحمد
ثامناـ
ان الحجة قائمة بوضوح ضد ساجنيه ، وضد الدولة التي سجنته لانها سجنت عبدا صالحا ووليا من أولياء الله وهم يعلمون ذلك طبعا ، يكفيهم منم ذلك مايرونه دائما منه من كثرة العبادة والتهجد وقيام الليل وصيام النهار حتى ان عددا من ساجنيه كخالد بن يحيى البرمكي وغيره حاول التخلص والتملص من مسؤولية سجنه لما يرون من فضله وعلو شأنه وهذا هو السبب الرئيسي فيما أرى في نقله من سجن الى سجن ، لان السجان كان يرفض استمرار سجنه عنده الى ان وصل الى سجن السندي بن شاهك ـ عليه اللعنة ـ الذي لم يكن يشعر بهذه المسؤولية ـ قبحه الله ولعنه ـ .
تاسعاـ
ليس هذا فقط بل كان الفراشون والمباشرون له في السجن يصبحون اتقياء وأولياء في ليلة وضحاها بهداية الامام(عليه لسلام)وعمله حتى انه روي أنهم جعلوا له امرأة خليعة لكي تخدمه فاصبحت في يوم واحد زاهدة وعابدة
عاشراـ
أنه ـ الامام الكاظم(عليه السلام)ـ تحرر من السجن ، اطلق سراحه الى الحرية الحقيقية بموته مظلوما وليس الى الدنيا كما هو العادة فيمن يطلق سراحهم فانه اذا اطلق سراحه في الدنيا سيكون قد خرج من سجن الى سجن لان( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) أما اذا ذهب الى ربه ومقاماته العليا فقد نال الحرية الحقيقية من اضيق السجون .
ومن هنا ورد ان هارون العباسي ولا اريد ان اسميه الرشيد لانه ليس برشيد . ليس برشيد . ليس برشيد . ارسل اليه يطلب منه مجرد الاعتذار لكي يطلق سراحه ـ بمعنى أن يعتذر الامام لهارون ويطلق هارون سراح الامام ـ فقال الامام(عليه السلام):
قال له ـ مخاطبا الرسول ـ إن أي يوم يمضي فانه يقلل من أيام بلائي كما انه سيقلل من أيام سعادتك وملكك ـ أي سعادته بالخلافة والدنيا والمستوسقة له(انتهى )
نعم تعسا للطغاة فها هو المكان الذي دفن به الجسد الطاهر لمولانا الامام الكاظم(عليه السلام) اصبح روضة من رياض الجنة يغاث فيها الملهوف وينفس فيها عن المكروب ،وتهوي اليه القلوب قبل الابدان من جميع الاصقاع والبلدان ، وجعله الله تعالى شأنه باب لقضاء الحوائج ورمزا للحرية والاباء والتضحية والاخلاص ...، وما إن تأتي ذكرى الخامس والعشرين من رجب إلا وأنت ترى الملايين من المحبين يزحفون زرافات، زرافات نحو الكاظمين المقدسين حاملين نعوشا رمزيه معلنيها صرخة مدوية تهز الكون بأننا على العهد باقين وبأننا لن نبتغي بكم يا أهل البيت بدلا فانتم نعمة الله العظيمة علينا وعلى العالمين ،وأن لا مكان للطواغيت والظالمين في ارض الله مهما طالت السنين .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وعجل اللهم فرجهم والعن عدوهم.
من مصادر ومراجع المبحث:ـ
1ـ حياة الامام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، للشيخ باقر شريف القرشي ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ط3/ 1398هج
2ـ سيرة الأئمة الاثني عشر(عليه السلام) السيد هاشم معروف الحسني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق