أحداث سريعة، ومتغيرات تتطلبها المرحلة، ما تكاد أن تضع أصبعك عليها لتشخص أسبابها وعللها، حتى يظهر متغير آخر، ما كان ليدر بخلدك، وعندها قد تتقاطع عند البعض المواقف وتتفق في البعض الآخر منها، وكلٌ يسعى الى تحقيق مراده في هذا البلد الذي أصبح كالقنفذ من أثر السهام والطعنات.
فهكذا هي الأحداث تمر علينا سريعة كأنها البرق الخاطف.
والغريب إن تلك الأحداث والمتغيرات تحتاج الى تعامل خاص، يحدد الفرد من خلاله موقفه الذي يتبناه، والذي يرتجي منه تحقيق أهدافه وغاياته، ولا يمكن غض الطرف عنها والابتعاد منها، إلّا إذا كان الفرد غافلاً نائماً لا يهمه من أمر بلده شيء يذكر، وفي خضم ذلك يظهر البعض ليدلي بآرائه، ثم يعترض أو يصيبه هاجس من الرفض لقسم من التحركات التي يقوم بها، من كان يعتقد به بأنه طريق الهداية والنجاة، يعترض ويشكك، وكأن الأمر يدور في حلقة ضيقة من حلقات فكره، الذي لا يعدو حجم تجربته في الحياة، فهو كمن يقترب من أسد مفترس، ولكنه لم يره، لوجود ساتر من القماش، وعندما يقول له أحدهم ابتعد عن هذا الستار ولا تقترب منه، لا يسمع الكلام ولا يمتثل له، وقد يستهزء به، وما ذلك إلّا لأنه لا يرى ملامح الخطر شاخصة أمامه.
فهكذا هي الأمور التي تجري الآن، كلها مغلفة بأستار وأقنعة، تأتيك لتأخذ منك ما تريد، وهي ماثلة أمامك تتميع، تغريك وتغويك فتظهر لك بعكس واقعها، فتحيطك بالأخطار من كلّ جانب، وأنت لا تشعر بها، بل لا تفقه من أمرها وسيرها شيء.
والشخص المُتَعقّل في مثل هذه الظروف عليه أن يترك الأمر لأهله الذين خبروا الحياة وعرفوا ما هو المصلح من المفسد فيها، وأنطلقوا من موقع المسؤولية، لمعالجة كل ما هو طارئ، ومواجهة المستجدات وتشخيص محركاتها، من أجل الوصول بالقاعدة الى جرف النجاة، ومن ثم بناء مجد وعز وحضارة، وأود الآن أن أذكر بعض النقاط كوصايا لمن أراد أن يتعامل مع هذه المواقف والمتغيرات بشكل سليم، ليخرج منها بموقف يطمئن له قلبه ولا تشك فيه نفسه.
أولاً:
الكثير منّا قد قرأ التأريخ وتمعّن في أحداثه، وقد مرّت علينا إعتراضات المسلمين على الكثير من أفعال وأقوال الرسول صلى الله عليه وآله، وما ذلك إلّا لأنّهم قد عاشوا مرحلة ذلك التفكير البسيط والساذج في التعامل مع تحركات الرسول وتصرفاته، والذي كثيراً ما كان يُلَقّح بكلمات الفتنة من قبل المنافقين، لتزداد بذلك الحيرة ويزداد الشك في أصل القيادة، لتبرز الى الوجود الإعتراضات من خلال الكلام أو بعض التصرفات الغير لائقة، وبالتالي سوف تكون النتائج المترتبة على مثل هكذا سلوك غير مرضية على الإطلاق.
وكأمثلة على ذلك، فقد إعترض بعض المسلمين على رسول الله صلى الله عليه وآله في صلح الحديبية، وكيف كان يبدو للبعض أنّه ليس في محلّه، وكان الأولى أن يدخلوا مكة بدل هذا الصلح، وخصوصاً أنّه قد وعدهم بدخولها.
وأعترضوا عليه صلى الله عليه وآله في مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم سهماً من الزكاة، وهم أصناف متعددة منهم أشراف العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتألفهم ليسلموا، ومنهم قوم أسلموا ونياتهم ضعيفة فيؤلف قلوبهم بإجزال العطاء، كأبي سفيان وابنه معاوية وعيينه بن حصن، ومنهم من يترتب بإعطائهم إسلام نظرائهم من رجالات العرب. وقد تم الإعتراض على الرسول الأعظم بالرغم من أن الله تعالى هو الذي أمره بذلك حيث جاء في الكتاب الكريم : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة : 60].
وفي معركة أحد اراد الرسول صلى الله عليه وآله من أصحابه أن لا يخرجوا من المدينة لقتال قريش التي كان قوام جيشها ما يقارب ( 3000 ) مقاتل، بل يبقوا فيها ويتحصنوا بها، فإن اقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بِشَرِّ مقام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وذلك لأن قريش لاعلم ولا عهد لها في معارك الأزقة.
ولكن الكثير من المسلمين لم يرق لهم هذا القول الرسالي، فألحوا عليه صلى الله عليه وآله بأن يغير رأيه، لأنهم كانوا يرون المصلحة بمواجهة قريش خارج المدينة حتى قال قائلهم : يارسول الله كنّا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، أخرج الى اعدائنا، ولا يرون إنّا جبنّا عنهم. وقال آخر: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة.
فأضطر الرسول صلى الله عليه وآله الى أن يتنازل عن رأيه، مراعاة للظرف ولهؤلاء المتحمسين، الذين لم يلتفتوا الى كلام الرسول المعصوم، وفضّلوا أن يملوا آراءهم ظنّاً منهم أن المصلحة لا تقوم إلّا بذلك.
والى غيرها من الأمثلة الكثيرة التي مرّت علينا في التاريخ، التي لم تبن المصلحة منها في نفس الوقت، ولكن ظهرت بعد حين وبعد فوات الأوان، وحينها سيصيب الندم من أقدموا على التشكيك والإعتراض بسبب العجلة التي هي من سيوف الشيطان وإحدى وسائله في الهدم والتخريب.
والشيء المستغرب إننا في لقاءاتنا ومجالسنا وفي كتاباتنا ننتقد ونستهجن مثل هذه الأفعال بشدّة، ولكن عندما نريد أن نطبق واقعنا العملي مع تحركات السيد مقتدىالصدر، ترانا نفعل فعل اولئك الذين كنّا ننتقدهم، ولا نتعظ ولا نعتبر بحيث نستفاد من التجارب السابقة التي إتخذناها بلقلقة اللسان فقط.
ثانياً:
إنّ السيد مقتدى الصدر، بما إنّه قائد لطبقة من المؤمنين لا يستهان بها، مضافاً الى أنّه صاحب مشروع إصلاحي ووطني كبير، فإنه بالتأكيد سيواجه عدّة ضغوط وتحركات من قبل الأطراف الأخرى، التي لها مبتنيات إستراتيجية مخالفة له، أو تتفق في شيء وتفترق في أخرى، وستكون بكل تأكيد تحركات وتنقلات مدروسة وليست بالعفوية، فعليه أن يخطط ويواجه بشكل متوازن بين الواقع الذي يسعى الى تحقيقه، وبين من يحاول العرقلة والمشاكسة، بحيث تؤدي النتائج الى إفشال وإرباك ما يخططون له، من دون أن يمس أو يؤثر على مشروعه الإصلاحي شيء، وإن تأخر بعض الوقت. علماً أنّه في الغالب يحقق منجز أو منجزات إصلاحية وتُقَرّ، وإن كانت تبدو بمستوى ضعيف، لكنها بأي حال من الأحوال ستعتبر خطوة أو خطوات تسير في طريق الإصلاح، ولابد أن تكتمل يوماً ما.
فعلينا أن نصبر وننتظر، وإرتقاب النتائج بعد حين، لا أن نكون متسرعين وعاطفيين تحركنا المشاعر والعواطف بدون أي مبرر علمي ينبع من واقع مرحلة صعبة لها العديد من الاوجه.
ثالثاً :
الكثير منّا قد قرأ وَعِلم بأن الإمام المهدي عليه السلام سيخرج بأمرٍ جديد وسيأتي بدين جديد على العرب شديد، ولذلك مادام هذا الشيء جديد وسيكون على العرب والمسلمين شديد، فإنّه لابدّ ان يكون مخالفاً للعادات والطبائع والمبتنيات التي سارت في المجتمع في ذلك الحين، وكما ورد في الكثير من الروايات، كأن يقتل علماء السوء الذين كنّا نحسن الظن بهم، أو يلتفت فيأمر بقتل أحد المقربين له والملاصقين له، أو يغير البعض من أحكام الدين، التي كثير منها الآن هي أحكام ظنية وليست واقعية، أو يهدم بعض المساجد ودور العبادة، أو يسير بسيرة خشنة وحادّة في الشرق الإسلامي، بينما قد يستعمل اللين والتسامح مع المجتمع الغربي. وحينئذ سوف تكثر الإعتراضات على الإمام عليه السلام، ولولا السيف لكان لها الأثر الكبير في عرقلة الفتح الإسلامي الكبير.
فعلى كل فرد يسعى لتربية نفسه على عدم الإستغراب أو الأعتراض ولو وجداناً على أفعال الإمام المهدي، أن يتعود على ذلك في المرحلة التي تسبق الظهور المبارك، خصوصاً وأنّ الله تعالى قد وهبنا قيادة صالحة طاهرة من آل الصدر، قد سعت بكل ما تمتلك من أجل التربية التكاملية، بحيث حتى في نوعية أوامرها وتصرفاتها، وإن كان البعض لا يستطيع هضمها بالمباشر، فهي إعداد وتهيئة وتدريب على عدم الإعتراض في المستقبل على أيّ قرار من قرارات القيادة الإلهية .
رابعاً :
إن قاعدة السيد مقتدى الصدر كبيرة، وهي بحمد الله في إتساع وكلَّ ما مرّت الأيام تكبر، وهذا بحد ذاته يشكل مصدر للقلق وعدم التفاؤل من قبل المتربصين بالسيد وأتباعه شراً، كونه الشاخص الوحيد الذي وقف شامخاً صلباً في وجه مؤامراتهم التخريبية والتهديمية للعراق وشعبه المظلوم، وحينئذ سوف تسعى هذه الأطراف للعمل على إثارة الفتن والشبهات داخل أبناء التيار الصدري، عساها أن تفرق وتبعد البعض من هذه القاعدة عن قائدها، وبالتالي نكون نحن آلة هدم داخل التيار بدون أن نشعر بذلك الفعل وخطورته في زرع الوهن والتقاعس في قلوب البعض من المؤمنين، وخصوصاً كما قال عزّ وجلّ : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة : 47].
فعلينا الإلتفات والإنتباه لمثل هكذا تصرفات خوفاً من ضياع ما جمعه الفرد من تضحيات وطاعة مبصرة واعية في سبيل الله، وحتى لا يكون حالنا كحال من وصفه الله عز وجلّ : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان : 23].
خامساً :
أن التجارب التي عاشها أفراد التيار الصدري منذ سقوط الطاغية والى الآن قد أثبتت حنكة وذكاء السيد مقتدى الصدر في تعامله مع الأصعدة التالية :
أ – على صعيد المقاومة الشريفة.
ب - على صعيد العمل السياسي.
ج – على الصعيد العبادي والتكامل المعرفي.
د – على الصعيد الإنساني بشكل عام.
بحيث تحير أعداءه به قبل أصدقائه، فكم من مؤامرة سواء كانت داخلية أم خارجية قد أستحكمت أدواتها، وظن حائكوها بأن لا مفرّ للسيد مقتدى الصدر منها، ولكن تراه يخرج منها بمنتهى البراعة، لتنقلب عليهم وبالاً يحرجهم وكأنهم كَمَن يسعى لحتفه بظلفه.
ولعمري هناك شيء آخر مهم جداً، علينا الإلتفات إليه وهو : أن السيد مقتدى الصدر يعمل لوحده في تحركه وفي إصدار القرارات، بينما الجهة الثانية المناوئة له فهي ليست واحدة، بل جهات كثيرة، بل قل دول وتحالفات، ولكن بالنتيجة تلك الكثرة وتلك الإمكانيات خسرت وإنكسر عودها أمام ذكاء ورجاحة عقل السيد مقتدىالصدر.
فإذن علينا أن يستمر عندنا حسن الظن بهذه القيادة المباركة، وعدم الشك في تحركاتها التي تسير بنا نحو الخير، ولنعينها بالطاعة، فإن وراءها الكثير الكثير من العمل والعطاء.
علي الزيدي
20 محرم 1438
22 تشرين الأول 2016
نسخة المقال للطباعة والنشر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق